جلست في مطار جدة قبل موعد طيارتي التي ستقلع بي إلى أرض الشام الحبيبة ,كنت قد وصلت مبكرا قبل موعد الطائرة بثلاث ساعات قادما من مدينة ابها التي أقيم بها في السعودية.
يمل البعض من الانتظار وخاصة وهم في طريق عودتهم إلى أعشاشهم في أرض الوطن ولكنني لم أكن من هذا النوع ,فرغم أني حديث العهد بالسفر جوا ولكنني كنت أجد متعة في الانتظار في محطات البولمان والهوب هوب ولم يكن الانتظار في المطار استثناء .
للانتظار في أماكن السفر سحر خاص يجعلك مراقبا لمجتمع مصغر من وطنك كما هو في كراجاتنا أو للعالم بأسره كما هو الحال في المطارات .
كان موعد طائرتي الساعة الثانية عشر يسبقها طائرات إلى بلاد ثارت وأخرى في طريقها نحو هذه الثورة ,أقلعت 4 طائرات قبل أن يتم الموعد المحدد لإعلان الصعود للطائرة السورية ولكن الإعلان المنتظر حل بدلا عنه الإعلان بالصعود إلى طائرة الخطوط الجوية الإفريقية المتجهة إلى طرابلس الغرب ,سألْنا ما السبب؟ فكان الجواب أن الطائرة لم تصل بعد.
لم تصل بعد؟! في هذه اللحظة شعرت أنني في سوريا فتأخير الموعد أوصل شعوري مبكرا لأرض الوطن المجبر على التأخر دائما في مواعيد الإقلاع والحضارة.
طال انتظاري مدة 3 طائرات أخرى إلى أن تم الإعلان عن الصعود للطائرة السورية وكان ذلك في الساعة الثالثة.
صعدنا إلى الطائرة التي كانت شبه ممتلئة فهي الخطوط الوحيدة التي تعمل بين السعودية وسوريا ,أصعد للطائرة لأهرب من الغربة إلى غربة أخرى ,تطالعك على متن الطائرة وجوه المضيفات و الطيارين بابتسامة صفراء تعيد لك الإحساس بوطن مسلوب منك .
توجهت إلى مقعدي كان المقعد المخصص لي جانب النافذة لكنني وجدت جاري بالمقعد قد احتل مكاني , كثيرا ما اعبر عن امتعاضي بالصمت وهذا ما فعلته كان حزني كبيرا ,ولم يكن ذلك حزنا على المقعد المسلوب ولكن لتفكيري أنه رغم سفري لعدة مرات على طائرات السعوديين الذين كثيرا ما كان يتم نعتهم عندنا بالتخلف والبداوة لم يسبق أن حصل وشاهدت أن شخصاً يأخد مكان شخص آخر, حزنت على وطن دأب نظامه على تعليم أبنائه عدم النظام.
جلست في المقعد الأوسط بين رجل احتل مقعدي ورجل وضع رأسه فوقي لينظر من النافذة
شعرت بانقباض و ضيق فما هربت منه من سوريا هاهو يرجع إلي مرة أخرى.
انطلقت الطائرة وارتفعت في السماء وما هي إلا فترة قصيرة حتى بدأت المضيفات بالتحرك لتقديم العصير الذي ستتلوه وجبة الغداء كما أعلن لنا الطيار ,اقتربت المضيفة مني ولأول مرة لم أجد رغبة في تناول اي شيء ,قد يكون شعورا غريبا ولكنني أحسست أني سأشرب من دمي وآكل من لحمي ,لا أدري ربما شعرت بأن ما يقدم لي أشبه بما يقدم للسجين في سجن العدو, رفعت يدي وقلت شكرا بينما تناول كل من جاريَّ وجبتيهما وبدأا يأكلان بنهم جعلني أشعر بالاشمئزاز.
أعلن الطيار عن اقترابنا من مطار دمشق وأعلمنا بضرورة ربط الاحزمة استعدادا للهبوط,
وما هي إلا لحظات حتى حطت بنا الطائرة في مطار الوطن.
نزلت من الطائرة وتوجهت مع من معي من الركاب باتجاه قاعة المطار لختم جوازات سفرنا.
طوال الرحلة لم يراودني أي شعور بالخوف من أن أكون مطلوبا لجهة أمنية ما ,كان عندي ارتياح غريب رغم أن كثيرا من رفاقي نصحوني بعدم السفر بسبب بعض نشاطاتي على الشبكة الاجتماعية وغيرها وكان جوابي دائما (ما راح يصير غير يللي ربك كاتبو ,بعدين الشباب الطيبة فاضية لهلي عم يثورو ع الارض لحتى تفضى لواحد يا دوب عم يكتب كلمتين عالنت متلي؟؟)
وقفت في طابور الانتظار حتى وصل دوري ,كانت أمامي فتاة مع أبيها المسن دار حديث بينها وبين الموظف قالت فيه أنها من( الصليبة باللاذقية) ,صارت لأسماء المدن والمناطق معان أخرى بعد الثورة لم نكن لنعرفها قبل ذلك.
وصلت إلى الموظف وأخذ جواز سفري و أنزل اسمي على الحاسب ,تغيرت نظراته وبدأ يدقق في جواز السفر ,عندها فقط بدأت أحس بالخوف مما تخبئه هذه النظرات,بدأ يسألني من اين أنا وماذا أعمل وأنا أجيبه ببرود مصطنع ربما لو كنت اصطنعه في فرع تحقيق لم يكن ليكون ذو فائدة,
ثم نادى زميله وبدأا يتبادلان النظرات مع تأشيرات على الجهاز من دون كلام مفهوم,أخذ خوفي يزداد ثم ما لبث أن نظر إلي وقال انتظر قليلا لو سمحت خارج الدور ,خرجت من الدور لأدخل في دوامة الأفكار ,لم أنزل إلى البلد قبل أن أتأكد بشكل ما من أن وضعي الأمني نظامي ,ولكن في بلد مخابراتي مثل سوريا لا شيء يمكن أن يكون أكيد في هذه المواضيع فلديك وفرة في الفروع الأمنية ولا تستطيع أن تتنبأ لمن قد تكون مطلوبا ,حملت هاتفي الخلوي وأجريت اتصالاً بأبي و أخبرته بما جرى معي فقال لي (و لا يهمك انتظرني شوي ) بعد قليل أتى ذات الشخص الذي تكلم مع موظف الجوازات واقترب من الموظف وقال له (مشيه) فأجابه(بس....)فرد عليه زميله إجابة حازمة :(المعلم بيقلك مشيه) عندها فقط ناداني الموظف واعطاني جوازا مختوما بختم البراءة من شيء لا أعرف ما هو.
تجاوزت البوابة و الغصة في حلقي والألم يعتصر قلبي وأنا أتساءل :لماذا؟لماذا يجب علينا أن نخاف من الوطن ؟لماذا نحرم من شعور السعادة بالعودة إلى ديارنا ؟لماذا يجب أن ترتبط سلامتنا في وطننا بالخوف من الذنب الذي لا ندري ما هو,استلمت حقائبي لأجد عاملا يعرض خدمته بتوصيل حقائبي لم تكن عندي أي رغبة في الكلام فلم أمانع مع أنني شعرت بعدم الارتياح لأسلوبه المتملق ونظراته التي لا تشبه إلا نظرات الجواسيس و المخبرين .
وصلت إلى نهاية ممر الخروج كان أبي وأمي بانتظاري تقدمت نحوهما وركض أبي باتجاهي قبّلته وأنا مجهش بالبكاء ثم تقدمت باتجاه أمي وأنا لا أتمالك نفسي عن البكاء ,لم تكن دموع الفرح للقائهم بعد فراق طويل ,كانت دموع الغصة والألم لسرقة وطني مني ,سرقة فرحي بلقاء أهلي و االمشي فوق أرض الشام الحبيبة .
شرح أبي لي ما جرى ,لم يكن توقيفي أكثر من مجرد تشابه أسماء .
تشابه أسماء؟؟؟؟؟نعم تشابه أسماء مع شخص لا يجمع بيني وبينه أكثر من الاسم الثلاثي مع اختلافنا بباقي البيانات,قال لي والدي أنه و منذ ١٠ أيام وهو يعمل على حل هذه الإشكالية وأنه لو لم يفعل ذلك لربما قضيت إجازتي في السجن بانتظار التأكد من هويتي.
خرجت من المطار وأنا أشعر بعدم الرغبة في متابعة الطريق إلى البيت,
محمد جندي
المواد الوارد في هذا القسم لا تعبر بالضرورة عن سياسة تحرير الموقع
ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]