الآن, و بعد أن باتت ملامح الديكتاتورية الجديدة أكثر وضوحاً, و لأن البعض لم يكن يريد أن يصدق, و البعض الآخر لا يريد أن يصدق لا اليوم و لا غداً, بل إن هناك من يقبل و يرحب بهذه الديكتاتورية و يجنّد نفسه للدفاع عنها, يصبح الإنقسام أكثر حدة و خطورة.
عندما وصل حافظ الأسد إلى السلطة قال أنه يحكم باسم الشعب و سمّى انقلابه العسكري (حركة تصحيحية ) و جاء بفريق من المقربين منه من أقارب و أصدقاء ليحكم قبضته على البلاد و سمّى حزبه (الحزب القائد للدولة و المجتمع) وألغى الحياة السياسية و استبدلها بأحزاب شكلية صورية سماها الجبهة الوطنية
و ها هو اليوم أحمد الشرع على خطى حافظ الأسد قد جاء بفريق من الأقارب و المقربين ليحكم قبضته على بلد مدمّر و قد أعطى لجماعته المتشددة صلاحية إصلاح المجتمع و يمنع انطلاق الحياة السياسية. فإذا كان نظام آل الأسد قد أوصل سوريا إلى الضعف و التعفن و الموت السريري فإن نظام أحمد الشرع الذي يتشكل الآن و أمام أعيننا سوف يكون الضربة القاضية التي ستدمر سوريا التي عرفناها لأكثر من مئة عام.
لكن هناك أكثر من مجرد التشابه في المنهجية, هناك شك كبير بانتماء الشرع نفسه إلى نظام الأسد. فإن كانت بعض الحقائق تكشفها الوثائق فإن بعضها الآخر تكشفه الأحداث.
و فيما يلي السيناريو الذي توحي به الأحداث و الذي يرتكز إلى وقائع لا يستطيع أحد إنكارها :
أولا- إن الأسرة الصغيرة التي ينتمي إليها أحمد الشرع ليست في مناخ التشدد الديني السلفي التكفيري, من شخصية والده إلى شقيقة المتزوج من امرأة روسية إلى مكان إقامة العائلة في دمشق و هي منطقة أبعد ما يكون عن مناخ التشدد ذاك. فإذا أضفنا إلى ذلك أن والده السيد حسين الشرع قد التقى بحافظ الأسد في وقت لم يكن أمراً متاحاً على الإطلاق لشخص عادي أن يلتقي بحافظ الأسد و كذلك صلته ببعض كبار المسؤولين نكون أمام احتمال كبير بأن لحسين الشرع و بالتالي لأحمد الشرع علاقة ما بنظام حافظ الأسد و من بعده بشار الأسد, و قد تكون تلك العلاقة أمنية أو حزبية بعثية
ثانياً-بعد الإحتلال الأميركي للعراق 2003 و خوفاً من أن يمتد هذا الإحتلال إلى سوريا قام بشار الأسد و عن طريق أجهزنه الأمنية باستخدام الخطاب الديني لحشد (المجاهدبن) للتوجه إلى العراق و مقاومة الإحتلال الأميركي ( و انكشاف قصة أبو القعقاع معروفة في هذا السياق) و قد كان الهدف من كل ذلك هو إرهاق القوات الأميركية في العراق و استبعاد فكرة التمدد إلى سوريا
في تلك الفترة و في هذا السياق ذهب أحمد الشرع إلى العراق كمجاهد اسلامي, و قد كان التيار السلفي المتمثل بتنظيم القاعدة و من ثم داعش هو السائد هناك من أبي مصعب الزرقاوي ألى أبي بكر البغدادي. و الملفت أن علاقة جمعت بين أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) و أبي بكر البغدادي سريعاً و بشكل لا يبدو مفهوماً إذا افترضنا أن أحمد الشرع قد ذهب إلى العراق بمبادرة فردية كشخص عادي في سياق حملة التجنيد التطوعي لمقاومة الإحتلال الأميركي التي كان يقودها بشار الأسد
ثالثاً- بعد إطلاق سراحه من السجن في العراق عاد إلى سوريا في 2011 إبان انطلاق الثورة السورية حيث بدأ بتشكيل فصيل جهادي متشدد هو جبهة النصرة تحت مظلة تنظيم القاعدة, فإذا أضفنا هذه الواقعة إلى واقعة أخرى متزامنة معها و هي إطلاق بشار الأسد سراح كبار المتشددين الإسلاميين من سجونه في تلك الفترة لتشكيل فصائل إسلامية متشددة و القضاء على الوجه المدني الوطني للثورة السورية و بالتالي إعادة تعريف الواقع الدموي على أنه حرب النظام على الإرهاب نكون قد وجدنا مصدراً آخر للشك بحقيقة أحمد الشرع الأمنية خصوصاً و أنه امتلك في تلك الفترة دعماً مادياً كبيراً مكنه من توسيع تنظيمه الجهادي خلال فترة قياسية و هو أمر لا يستطيع شخص عادي القيام به دون ارتباط بمؤسسة أو تنظيم مثل داعش أو المخابرات السورية
رابعاً- عندما توسعت جبهة النصرة بقيادة أبي محمد الجولاني في سوريا و أصبحت قوة عسكرية رئيسية وجهت جهدها العسكري الأساسي للقضاء على ظاهرة الجيش الحر و الذي كان يمثل -بكل عيوبه و قصوره-كل ما تبقى من الوجه الوطني للثورة السورية, و رفع الجولاني راية تنظيم القاعدة الأيديولوجي, و قد تميزت تلك الفترة بالكثير من المعارك البينية و الإغتيالات و ابتزاز السكان شمال سوريا من تلك الفصائل التي تحولت إلى إقطاعيات عسكرية أمنية متحاربة كانت أهمها جبهة النصرة التي سيطرت على شمال غرب سوريا و اقتصرت معاركها مع نظام بشار الأسد على معارك صغيرة دفاعية تكاد تكون شكلية و بدأ أحمد الشرع-أبو محمد الجولاني بتأسيس كيان اسلامي تكفيري هناك قدم للسوريين سنوات من اليأس بالتخلص من نظام بشار الأسد الذي كان بدأ ينتعش و يستعيد تماسكه في تلك الفترة و قدم للعالم و للسوريين صورة مظلمة و منفرة عن بديل بشار الأسد و خدمة له سواء يشكل وظيفي مقصود أو غير ذلك.
خامساً- إن قصة (التحرير العسكري) الذي قامت به هيئة تحرير الشام و حلفاؤها وصولاً إلى دمشق و بالشكل الذي رأيناه تليق فقط بقصص الأطفال و لا يمكن لعاقل أن يصدقها – و العاقلون اليوم قلة.
فبعد فشل كل الجهود الإقليمية و الدولية لدفع بشار الأسد للإنفكاك عن إيران, ليس بسبب تمسك بشار الأسد بإيران بل بسبب تمسك إيران ببشار الأسد و عدم السماح له بالإنفكاك, يبدو أن القرار قد اتخذ بإزاحة بشار الأسد. و ليس هناك شك في أن أحمد الشرع قد قدم تعهدات لأصحاب القرار ليكون بديلاً لبشار الأسد, إن كان بعض هذه التعهدات قد بدأ يتضح إلى حد ما ( مثل ضمان أمن إسرائيل و التنازل لاحقاً عن الجولان) فإن بعضها الآخر سوف يتضح مع مرور الوقت. نحن لا نعرف من هم بالضبط أصحاب القرار ذاك و لكننا نعرف جيداً أن أمراً قد صدر لجيش بشار الأسد بالتوقف عن القتال و إلقاء السلاح و العودة إلى المنازل.
سادساً- كل ما فعله أحمد الشرع منذ وصوله إلى السلطة في دمشق يأتي في سياق واحد: و هو قتل كل أمل بقيامة سوريا من الدمار و الذهاب بها إلى التفكك و الحروب الداخلية و تعزيز الكراهية الدينية الطائفية في المجتمع السوري الذي بدأ ينقسم إلى مجتمعات. يعتمد نظام أحمد الشرع اليوم على العصبية الطائفية و التشدد الديني الأعمى. كما بدأت تظهر عليه شخصياً علامات الديكتاتورية الفردية, كأن يتحدث عن نفسه كمخلص لسوريا من نظام الأسد, و أن (شعبه) يلتف خلفه.
-----------------------------------------------------------------------
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]