مساهمات القراء

أستاذ الاقتصاد يشرح مفهوم "العرض والطلب" مستخدماً راتبه كمثال حي .. بقلم: محمد الهلال

مساهمات القراء

15.10.2025 | 20:26

تبدو الجامعة السورية اليوم وكأنها آخر جدارٍ يقف بوجه الانهيار الشامل ، لكنها تفعل ذلك بجهدٍ خارقٍ من الأساتذة الذين صاروا يعرفون كل معادلات الصبر عن ظهر قلب.   كانت جامعاتنا – دمشق، حلب، تشرين، البعث، الفرات، طرطوس، إدلب  وحماة – مناراتٍ حقيقية، لا مجرد شعارات على لافتات، لكنها اليوم تقف بين مطرقة الغلاء وسندان الرواتب الثابتة منذ عصور الطباشير .

من يزور أروقة جامعة دمشق أو جامعة حلب يرى مشهداً يستحق التأمل: أستاذٌ يحمل شهادة دكتوراه من فرنسا أو بريطانيا أو روسيا، يخرج من محاضرته ليقف في طابور المواصلات، ثم يُمسك هاتفه ليحسب بدقةٍ متناهية كم تبقّى من راتبه بعد خصم إيجار البيت، والغاز، ومصاريف المدرسة، وكيلو الزيت. هؤلاء الأساتذة الذين يُفترض أن يدرّسوا "نظرية رأس المال" باتوا خبراء في رأس المال المفقود. راتب الأستاذ الجامعي في سوريا لا يتجاوز أربعمائة دولار شهرياً، وهو مبلغٌ يصلح لدراسة حالة في علم الاقتصاد أكثر مما يصلح للعيش. أربعمائة دولار! في وقتٍ بات فيه إيجار شقة صغيرة في حي المزة يعادل ثلثي هذا الراتب، ووجبة طعامٍ لعائلةٍ في أحد مطاعم دمشق قد تكلف ثلثه الثالث. وهكذا يجد الأستاذ نفسه أمام معادلةٍ مستحيلة: يدرّس طلابه المنطق والتحليل بينما يقضي لياليه يحاول تحليل فاتورة الكهرباء. إنها معادلة غير متوازنة: عقلٌ ينتج المعرفة ويعيش كأنه في برنامج تقشّف دائم. لكن المدهش في القصة أن الأساتذة لم يتوقفوا. ما زالوا يدرّسون، ويشرفون، ويكتبون، ويناقشون، حتى وهم يراجعون أسعار الخبز واللبن والوقود. إنهم يخوضون معركة بقاءٍ بالطباشير.

 لقد غادر الكثير من الكفاءات إلى الخارج، لا لأنهم فقدوا الولاء، بل لأنهم فقدوا الأمل في أن يجد الولاء مكاناً في قائمة الأسعار. هاجر بعضهم إلى سلطنة عمان والإمارات والعراق وروسيا، والخليج وهناك اكتشفوا أن الأستاذ الجامعي يمكن أن يعيش حياةً محترمة، وأنه ليس مضطراً بعد المحاضرة إلى حمل أكياس الخضار بنفسه أو إصلاح باب بيته بيده لأنه لا يستطيع دفع أجر العامل.

أما الموفدون العالقون في الخارج، فقصتهم أقرب إلى روايةٍ حزينة من الأدب الواقعي. أوفدتهم الدولة يوماً بفخر، ثم نسيتهم حين عادوا. بعضهم عاد يحمل شهادةً من جامعة السوربون ليُفاجأ أن عليه أولاً أن ينتظر ستة أشهرٍ قبل أن يصرف راتبه الأول، وأن شهادته تحتاج "معادلة" كأنها شهادة من المريخ. بعضهم الآخر طُلب منه تسديد مبالغ لم يتقاضها أصلاً، وكأن العلم أصبح ديْناً لا فضلاً. ورغم كل ذلك، ما زال هؤلاء الموفدون يحلمون بالعودة. يريدون أن يشاركوا في نهضة الوطن، لا أن يكونوا مجرّد أسماء في قوائم مؤجلة. لكنهم يطلبون فقط أن تكون العودة كريمة لا بيروقراطية، وأن يُستقبلوا بالعقود لا بالوعود.

 إننا لا نطالب بالمعجزات، فالمعجزات تحتاج أنبياء، ونحن لا نريد أكثر من رواتبٍ تجعل الأستاذ يعيش حياة طبيعية لا إعجازية. يمكن للدولة أن ترفع الرواتب تدريجياً، وأن تؤسس صندوقاً وطنياً لدعم التعليم العالي يشارك فيه القطاع العام والخاص، فدعم الجامعة ليس ترفاً، بل هو أبسط أشكال الحكمة الاقتصادية: لأن من لا يدفع للجامعة اليوم، سيدفع غداً أضعافاً لإصلاح ما أهملته الجهالة. وإذا كان رفع الرواتب يحتاج وقتاً، فهناك عشرات الطرق الأخرى التي يمكن تطبيقها غداً صباحاً.

اسمحوا للأساتذة أن يعملوا في الاستشارات العلمية للوزارات والشركات، فهم أدرى من كثيرٍ من مكاتب الاستشارات التي تستعين بخرّيجي الأمس. دعوا الجامعات تفتح برامج تدريب مهني ودورات مسائية للعاملين، ومدارس صيفية مكثفة لتعليم اللغات والمهارات، ودورات إلكترونية مدفوعة تمنح شهادات خبرة. أليس من الغريب أن جامعاتٍ أوروبية تكسب ملايين الدولارات من الدورات الإلكترونية بينما جامعاتنا ما زالت تتجادل حول من يُطفئ المكيف آخر الدوام؟ شجعوا الأساتذة على الإشراف المدفوع على الأبحاث والمشاريع التطبيقية، وعلى كتابة مقترحات المنح البحثية، وعلى نقل التكنولوجيا وبراءات الاختراع. أنشئوا مراكز استشارية صغيرة في جامعة دمشق وتشرين وحلب، تقدم خدمات في الترجمة، والتحليل الاقتصادي، والتدريب اللغوي، وعلوم الطاقة، بمقابل مادي. اتركوا للأساتذة مساحة للعمل مع المنظمات الدولية، ودعوا خبراتهم تثمر بدل أن تذبل خلف المكاتب.

ولا تنسوا التفاصيل الصغيرة: بدل السكن، بدل النقل، بدل الكرامة — نعم، حتى الكرامة أصبحت تحتاج بنداً في الموازنة. فالذي يدرّس طلابه "الاستقلال المالي" لا يجوز أن يعيش في تبعية دائمة للراتب الضئيل. إن إصلاح الجامعة لا يبدأ من القاعات، بل من الاعتراف بقيمة من يقف أمامها. والنهضة الحقيقية لا تصنعها اللجان بل العقول المرتاحة. فكروا بالمنطق الأبسط: لا يمكن لعقلٍ جائع أن يُنتج معرفة مُشبِعة. لهذا نقترح، بواقعيةٍ وبدون أوهام: ابدأوا بخطواتٍ صغيرة، جريئة، واقعية. نفّذوا مشاريع تجريبية محدودة: دورة مهنية مدفوعة، مركز استشاري صغير، ورشة صيفية، حتى لو بدأت في كلية واحدة. ضعوا قواعد واضحة للعمل الخارجي ومشاركة الإيرادات وحقوق الملكية الفكرية، حتى لا يتحول الطموح إلى فوضى. درّبوا الأساتذة على كتابة المنح وتصميم الدورات الإلكترونية بدل أن يُطلب منهم فقط حضور الاجتماعات الطويلة التي لا تُثمر شيئاً.

ابنوا شراكات مع الأساتذة السوريين في الخارج، فالبلد مليء بالعقول التي تريد أن تُسهم لكنها تنتظر من يسمع صوتها. وسهّلوا الإجراءات المحاسبية والعقود الجامعية بدل أن تبقى بين “قيد الدراسة” و“بانتظار الموافقة”. كونوا واقعيين: لن نبني نظام نقل تكنولوجيا مثل ألمانيا بين ليلة وضحاها، لكننا نستطيع غداً أن نُقيم دورة لغات أو ندوة استشارية تدرّ دخلاً محترماً وتعيد الثقة.

أما العقبات المتوقعة، فهي معروفة أكثر من جدول المحاضرات: لوائح تمنع العمل الخارجي، نقص خبرة في كتابة المنح، تخوّف من تضارب المصالح. وكلها قابلة للعلاج: لوائح داخلية مرنة، ورش قصيرة للتأهيل، وتعليمات أخلاقية واضحة، وتمويل مبدئي بسيط من منح صغيرة أو اعتمادات جامعية. ابدأوا فوراً بمزيجٍ من الإجراءات السريعة – الدورات المدفوعة، الاستشارات، الإشراف البحثي – مع بناء قدرات للمنح ووضع سياسة ذكية للملكية الفكرية. فالتجربة العالمية تقول شيئاً بسيطاً جداً: حين تكافئ الأستاذ على علمه، سيعطيك علماً يدرّ ذهباً. وأخيراً، تذكّروا أن الأستاذ الجامعي ليس من كوكبٍ آخر، لكنه أيضاً ليس موظفاً عادياً. هو من يصنع الأطباء والمهندسين والمعلّمين والوزراء أنفسهم. فكيف نطلب منه أن يبني العقول ونحن نتركه ينهار تحت ضغط الفواتير؟ ادعموا الأستاذ الجامعي ليعيش بكرامة، وسيُخرّج أجيالاً تعيش بعزة. قوّوا الجامعة السورية، فبها يبدأ طريق النهوض، وبها يُصان مستقبل الوطن.

 

-----------------------------------------------------------------------

*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع

*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]