مراجعة في كتاب
الطاهِ .. عندما يطبخون لنا "السم" الذي لا شفاء من اثاره ..
يروي لنا الكاتب الكندي من اصول هندية " جاسبريت سيه " قصة طباخ يختار ان تكون خدمته العسكرية في الموقع الذي خدم فيه والده من قبله، في منطقة كشمير المتنازع عليها بين الهند وباكستان.
القصة عميقة تستعرض جوهر الصراع بين مكونات الشعوب التي تشبهنا، تلك التي ما زالت متمسكة بالانقسام الى طوائف واعراق ، وتكشف عن حقيقة المعاناة التي تقاسيها هذه الشعوب ببقائها مهددة بالحرب والموت والكراهية.
يعود بطل القصة "كيربال" بعد 14 عاما من هجرته للمنطقة بعد ان تركها اثر تعرضه لمحاكمة ظالمة ، يعود ليقوم بالاشراف على تحضير مأدبة ابنة حاكم الاقليم الذي كان يخدم تحت امرته ، ليبدأ في طريق السفر استعادة شريط الذكريات.
في بلادهم كما في بلادنا ذات الامراض الفساد والمصالح التي تجعل استمرار الصراع مصلحة للمتنفذين ..
" العقيد اشترى مئات الاكفان المصنوعة من الالمنيوم من شركة اميركية ب 200 دولار للكفن الواحد، بينما باعها للجيش بـ 1800 دولار ، كلما مات عدد اكبر من الجنود الهنود كلما زادت ارباح العقيد وشركائه من السياسيين في دلهي وواشنطن."
"السبب في ان استطاع العدو اجتياز الحدود هو ان ضباط الاستخبارات عندنا كانوا نائمين او يلعبون الغولف ، او يبنون فنادقهم وصالات الرياضة ومراكز التسوق .. او انهم يشربون الخمور .. العدو يعرف هذا لذلك استطاع الدخول .."
وفي بلادهم كما في بلادنا ايضا نفور بين الطوائف ( السيخ والهندوس والمسلمين ) يستغل لإزكاء الصراع ، وتشدد يستخدم الدين لزراعة الموت طمعا في مباهج حياة ما بعد الاخرة ، فكشمير كما يصفها بطل القصة جنة على الارض .. مع هذا يقوم البعض بعمليات القتل .. بحجة انه يريد الذهاب الى الجنة ..
" الجنود الباكستانيين يطلقون علينا النار مع انهم في ارض منخفضة .. هم يؤمنون بانهم سيذهبون الى الجنة مباشرة ، عندما يقع احدهم في الاسر لا استطيع ان انتظر لأسأله .. كيف تبدو الجنة لك .." كيف تختلف عن هذا المكان ..
ولكن كما هو الحال دائما ليس كل الناس ضمن القطيع ، وهؤلاء الذي ابتلاهم الله برؤية الحقيقة ،و لو انهم قلة ، ولكن تبقى لديهم المقدرة على فهم ما يجري ... ولا يبقى امامهم الا السخرية من الواقع المكشوف لهم وهم عاجزون عن فعل اي شيء..
( سالتها " هناك العديد من الطوائف في الاسلام هناك السنة والشيعة والصوفيين .. من اي طائفة انت .. " فقالت انا من طائفة " المشردين" ( Homeless ) )
يصادف ان يشعر الطباخ في خلال عملية استجواب لفتاة باكستانية مسلمة انتدب ليترجم حديثها كونه يتقن لغتها ، يصادف ان يشعر بإحساس خاص تجاهها يجعله يتردد لزيارتها في مكان احتجازها ، ويمتزج هذا الاحساس الذي كان اقرب لحب نقي مع الشفقة والتعاطف ..
(كانت تنظر مباشرة الى شعري بفضول كبير ، كانت اول مرة تنظر بشكل مباشر الي فقلت لها " كثير من النساء ينظرن الى شعري بنوع من الحسد لانه اطول من شعورهن".
استمرت في النظر الي بفضول وببطئ ازالت غطاء رأسها وقالت "الشعر" .. تابعت عيناي حركتها بعدما سقط الحجاب على الارض وبدأت اسمعها تضحك بصوت عال .. " لقد حلقوا لها شعرها .. استمرت بالضحك قبل ان تنخرط بموجة بكاء. )
لم تنشأ بين الضابط الطباخ والفتاة ( العدو ) من خلف الحدود علاقة بما تعني هذه الكلمة من معنى ، بل بقيت في اطار الحب العذري والاحاسيس العميقة التي يكنها كل طرف للأخر ..
يعود الضابط بعد 14 عام ليشرف على مأدبة "الطفلة" التي عرفها ابنة الحاكم ، واحبها كابنة له واصبحت فيما بعد شابة شاعرة تلهم الملايين .. لم تمض الامور كما هو مأمول ، وتنتهي الرواية في جو كئيب يشبه الاجواء التي سادت كشمير طوال عقود من الزمن ..
"لا يعرف كثير من الناس في هذه الارض كيف يطلبون المغفرة ، وقليل منهم فقط يعرفون كيف يغفرون."
ستجدون في القصة الكثير مما يشبهنا نحن شعوب المنطقة ، حتى تلك القيادة المتهورة لوسائل النقل العامة ، عندما يترك السائق الباص في المنحدرات ليمضي بأقصى سرعة بدون "تعشيق" الحركة ليوفر البنزين .
اعجبني قول ادرجه كما ورد في القصة باللغة الانكليزية
This is neither a race, nor a rally
Drive safely in Kashmir valley
هنا ليس سباق ولا رالي ، قم بالقيادة بامان فهنا كشمير "فالي" ( وادي).
يذكر البطل في نهاية القصة عبارة ذات مغذى ، اترك الاستنتاجات منها للقارئ " الطرقات في كشمير ليست سيئة .. الباصات سيئة ، السائقون سيئون ، الحواجز سيئة ، اذا كان هناك شيء واحد صحيح في هذه البلد سيكون هو الطرقات"...
فكرت بعد الانتهاء من قراءة الرواية .. بانهم ... لم يكتفوا بتقسيم ارضنا وتقسيم مجتمعاتنا ولكنهم تعمدوا ان يتركوا في كل مكان "قطعة" غير مقسمة يرموها لنا لننقض عليها وننهش بعضنا بعضا .. كان باستطاعتهم ان يخصصوها كما فعلوا بكل تلك الاراضي لفريق دون فريق اخر .. ولكنهم تركوها هكذا ليستمر الصراع ..
نضال معلوف