في سجون عبد الحميد الثاني ..
ملخص :
يهتدي الصحفي مراد غريب الى طريقة يعود فيها الى الماضي ليلتقي بشخصيات كان لها تأثير في رسم معالم منطقتنا العربية في العصر الحديث ، التقى بداية بجمال باشا المعروف بالسفاح ، والتقى ايضاً بالشريف حسين قائد الثورة العربية ، ثم اختار ان يكون لقائه مع واحد من أهم الرجال الذين أعدمهم جمال باشا ، عبد الحميد الزهراوي ، كشفت اللقاءات التي اجراها حقائق هامة ومثيرة ، وقرر مراد ان يمضي قدما في سعيه للقاء شخصيات اخرى ووقع قراره على محاولة لقاء السلطان الاحمر عبد الحميد الثاني ..
بعد لقاء الزهراوي
أثر فيّ لقاء الزهراوي كثيراً، وكنتُ لأصادق على تسمية جمال باشا بالسفاح فقط لأنه أعدم مثل هذا الرجل.
الذي أنا متأكد منه اليوم ، أن الرجل كان صاحب فكر ورأي حر، بغض النظر عن صواب أو خطأ رأيه ولكن لم ألمس بأنه كان يضمر السوء لدولته، على العكس فقد وجدت من سيرته بأنه عمل طوال حياته للحفاظ على تلك الدولة.
تركني الزهراوي أمام فكرتين: الأولى فكرة الاستبداد التي حصرها في شخص السلطان عبد الحميد الثاني، آخر السلاطين الفعليين للدولة العثمانية ، والثانية فكرة الجمعيات السرية التي ألمح إلى أعمالها ولم يفصح عن حقيقة نشاطها أو أهدافها.
ولأن الاستبداد آفة ما زلنا نعاني منها حتى اليوم، فكّرت بالسلطان الأحمر، كما كانوا يلقبونه، حيث أن أصل الأزمة التي نعيشها اليوم على ما يبدو بدأت من قَصره وكان لا بد لي من لقائه أولا.
نعم الاستبداد، والديكتاتورية، والتفرد بالسلطة... عبارات متعددة لمعاناة واحدة تعيشها شعوب هذه المنطقة منذ قرون طويلة، ومن الواضح بأن آثارها تزداد كارثية مع مرور الوقت، وكلما اعتقدنا أننا وصلنا إلى قلب العاصفة، وبدأنا نأمل في أن تتجه الأمور إلى الهدوء والاستقرار، وجدنا بأن توقعاتنا كانت بعيدة عن الصواب، وبأن الأزمات تتفاقم وكأننا ننحدر على سفح واد سحيق يودي بنا مباشرة إلى هاوية لا قرار لها.
وفي هذا السياق عادت ريم لتخطر في بالي، وتذكرت آخر حديث لنا عندما أخبرتها عن تجربتي في السفر عبر الزمن ولم تصدق (معها حق). وددت لو أني أتصل بها وأكلمها عن آخر رحلة لي، فأنا أملك من التفاصيل والبراهين ما سيجعلها تصدق وتقتنع.
ترفض ريم من أكثر من سنة إعطائي رقم هاتفها، وتقتصر محادثاتنا بين الحين والآخر على رسائل الفيسبوك، وغالباً ما أكون أنا المبادر في التواصل..
مراد غريب
ريم أنت هون
..
..
ريم المهندس
إي
مراد غريب
كيفك
ريم المهندس
منيحة الحمد الله
قريت لقاءك مع الزهراوي
مراد غريب
عجبك؟
ريم المهندس
منيح بس كان عندي سؤال ممكن؟
مراد غريب
طبعا تفضلي
ريم المهندس
لما كتير عاجبك العثمانيين وسلاطين العثمانيين
ليش يعني مستكتر علينا سلطان منون؟
مراد غريب
ريم معلش ما نحكي بهالموضوع بقى ..
ريم المهندس
يعني عم تتهرب من الإجابة
مراد غريب
ما عم أتهرب بس إجابتي مارح تعجبك
ريم المهندس
أنت جاوب وأنا يلي بقرر إذا بتعجبني أو لا
مراد غريب
أمري لله :-/
أولا أنا ماني مع السلاطين لا بالماضي ولا بالحاضر
ثانيا أنا ماني معجب بالعثمانيين
كل الموضوع أني عم حاول أعرض الحقائق لنعرف وين كنا ووين صرنا
ريم المهندس
والحقيقة أنو فترة السلاطين صارت أفضل من واقعنا
هيك رأيك؟
مراد غريب
شو رأيك أنت ؟
ريم المهندس
انا رح أجي معك
مو شايف أنت أنو يلي صار من 100 سنة عم يتكرر حالياً؟
مو شايف متل ما تآمر العرب على الدولة العثمانية
عم يتآمروا على سوريا اليوم؟
وعم تتآمروا أنتو ولادها مع الأميركي
والسعودي ويلي بيسوا وما بيسوا على بلدكون؟
مراد غريب
يا ريم هي المرة العشر آلاف يلي بقلك فيها أنا صحفي
ماني سياسي لحتى تقولي لي أنتو .. ودول .. ومؤامرة
هي أولا
ثانيا وأنا يلي رح أجي معك
إذا كان الشعب متآمر فكل الحق على الحاكم
إن كان سلطان ولا وريث جمهورية
والله المبدأ بسيط ليش ما عم تفهمي علي
لازم بالنهاية يكون في مسؤول
ما بيصير مسؤولية بلد تكون سايبة
وبالأنظمة الديكتاتورية الديكتاتور بيكون المسؤول الوحيد
لأن ما في أي مشاركة حقيقية بالحكم والقرار لأي طرف غيرو
ريم المهندس
معناها العرب مو غلطانين وقت انفصلوا
وتآمروا مع الانكليز على دولتون
الحق على السلطان ..!!؟؟؟
مراد غريب
الموضوع بيختلف يا ريم
هلّأ ما حدا بدو ينفصل
العرب وقتها مدو إيدون للأجنبي
للإنفصال عن الدولة
اليوم مافي سوري عندو هيك مشروع
كل يلي صار صار لحتى يخلصو من مستبد
فاسد
تغيير رئيس غير الانفصال عن البلد
الرئيس بيروح وبيجي رئيس بدالو
البلد إذا راح ما بيرجع
ريم المهندس
وحبايبك العثمانيين بغيرو السلطان
وقت بدو الشعب؟
مراد غريب
مع أنو المقارنة غير واردة
لان الزمن غير الزمن
جوابي نعم كان تغير السلطان
أسهل من تغير رئيس ديكتاتوري بزمانا
بعد السلطان عبد العزيز إجا سلطان أسمو
مراد وطلع مجنون شالوه ما خلوه يروح البلد؟
ريم المهندس
شو قصدك ؟؟؟
مراد غريب
قصدي الأنظمة يلي ابتلت فيها بلدانا
مافي أسوء منها بالتاريخ
نظام فردي وراثي وحشي
مو غريب لكن أنو ممكن تغير سلطان عثماني وخليفة
ونحنا مافينا نغير رئيس جمهورية؟
..
لأحكيلك هل القصة
بآخر أيام السلطان عبد الحميد
آخر سلطان فعلي للعثمانيين
قام عليه الشعب بدون دستور
أصدر السلطان الدستور وقبل يحد من صلاحياتو
وعمل برلمان وهيئات ومجالس وهو مو مقتنع
ووقت عرف أنو جزء من الجيش جاية
لحتى يطيح فيه من على عرش السلطنة
ما اتخذ قرار للحرس الخاص
وحرس السلطان جيش من النخبة
ما عطاه أمر ليشتبك مع الجيش القادم
ليحقن الدماء
وتنازل عن العرش بدون أي نقطة دم
هاد مين ؟؟
هاد السلطان الأحمر الدموي عبد الحميد
وهو كان خليفة يعني ظل الله على الأرض عن حق
مو هيلمة .. !!
وهاد الكلام قبل أكثر من 100 سنة
شوفي هلّأ شو صار وقت الناس بدها تغير الرئيس
قلك ولا بتعرفي ؟
ريم المهندس
قلتلك ألف مرة الناس بدها الرئيس
مراد غريب
مافي شي أسمو الناس
كل الناس
مافي شي بالعموم يمكن في ناس بدها
وفي ناس ما بدها
والسلطان عبد الحميد بعد 100 سنة
لهلأ في ناس مؤيدة ألو
بس القائد الفعلي الوطني
هو يلي بيعرف إيمتى ينسحب ليحقن الدماء
ريم المهندس
بتعرف صاير متل الشيوعين
مافي أشطر منك بالمجادلة والتنظير
وأنك توجد الذرائع والمبررات
طول عمري ما بحسن عليك بالحكي
خليك أنت مع سلاطينك
أنا بدي نام عندي شغل بكير بكرا
تصبح على خير
مراد غريب
دايما بضييعي الحديث بالسياسة والخناق
…
..
وأنت بخير
السجن ارحم من الوقوع بين اكلي لحوم البشر!؟
ورغم أن سوريا قد ضاعت وتمزقت أشلاء، كان لا يزال هناك من يدافع عن الأسد، وكان هذا مفهوماً لي بدرجة كبيرة، في النهاية الناس بحاجة إلى حماية، وعندما تخلق لهم وحوشاً خارج القفص الذي سجنتهم فيه، سيرجونك بأن تبقيهم داخله وأن تحسن إغلاق الباب عليهم، وإن فعلت، ستكون في نظرهم المخلّص والبطل الذي أنقذهم من الوحش.
لننظر إلى أهل الشام، لنأخذ مثالاً بسيطاً من العاصمة، مكان حكم آل الأسد لمدة تجاوزت الخمسين عاماً. هناك من لا يعرف بأن الحرس الجمهوري في المدينة، الذي يبلغ تعداده عشرات الآلاف، ومدرب أفضل تدريب، ومجهّز بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكاً، هو من يحمي المدينة من خلال الانتشار على كل المرتفعات التي تحيط بها.
تقع دمشق في وادٍ تحيط به المرتفعات، وعلى رأس هذه المرتفعات يقبع قوات النخبة التي كانت تراقب كل شيء، كل حركة، حتى دبيب النملة في حي فقير بائس في أطراف المدينة، كان يصل صداها للحرس ويتردد الصوت في أرجاء القصر إذا ما كانت هذه النملة (معارضة).
وفي دمشق أيضا، على سبيل المثال، منطقتين مثل داريا التي هي أسفل سفوح الجبال التي يتمركز فيها قائد الفرقة الرابعة من الحرس الجمهوري، ماهر الاسد، شقيق بشار، وتقع بمحاذاة منطقة المزة التي تتصل بالمالكي وأبو رمانة، مناطق البرجوازية السنية الملتفة حول النظام، ومنطقة أخرى هي "جوبر" التي تقع على خط التماس مع الأقلية المسيحية التي تعيش في دمشق.
لم يتم السيطرة على هاتين المنطقتين أبدا، وتُركتا بأيدي "المسلحين" ومنهم "متشددين" يأكلون قلوب البشر و"يتسلّون" بين الحين والآخر بقصف العاصمة بالقذائف والصواريخ...
لو كنتم مكان السكان في المناطق على خط تماس مع آكلة قلوب البشر، ماذا كنتم لتفعلوا؟.
ستلتمسون الرجاء بعد الرجاء بأن يبقي الحارس القفص محكم الإغلاق عليكم حتى لا تدخل الوحوش وتفترس كل شيء.
طبعا ذروة هذه "الحبكة" مشاهد الذبح والحرق والتهجير والاغتصاب التي تظهر هناك في بعض الأماكن البعيدة، وإذا لم تقتنع نجعل هذه الحوادث قريبة جدا، هنا في العاصمة في أحد أطرافها القريبة جدا على "المحمية" ونترك الذعر ينتشر في أرض يسكنها الخوف أصلا منذ عشرات السنين.
اسطنبول كانون الأول 1899
لم يكن في استطاعة التطبيق هذه المرة أن يرتب لي اللقاء مع السلطان عبد الحميد الثاني في فترة حكمه، أظهر لي رسالة بأن هذا غير ممكن، إلا أنه عرض علي تقديم المساعدة فقط بنقلي إلى اسطنبول في التاريخ المحدد، وعلي أنا أن أجد طريقي إلى قصر السلطان.
وجدت نفسي في منطقة مزدحمة، تقدم نحوي رجل عرّف عن نفسه بأنه مرشدي واسمه كامل، سألته عن مكاننا ، أجابني أنها منطقة (بك أوغلي) وسألني كيف يمكن أن يقدم لي المساعدة.
وعندما قلت له بأني أريد مقابلة السلطان عبد الحميد الثاني، ضحك بصوت عال وكاد يقلب على ظهره من شدة الضحك، توقف شيئا فشيئا عندما قرأ في وجهي أني جاد في طلبي، وانفتحت عيناه اللتان كانتا مغمضتين من شدة الضحك الى أقصى حد من الدهشة.
لم يناقشني كثيراً، وجال بي قليلاً في حارات المنطقة، وكان معظمها محالاً تجارية ومطاعم، ثم سألني إذا كنت أريد أن أتناول الطعام لأنه يوجد في المنطقة مطعم شهير اسمه " طوقاتليان" طعامه شهي ولذيذ.
جلسنا إلى الطاولة واستأذنني ليذهب ويأتي بالطعام .
غاب أكثر من اللازم، ولما بدأت أتلفت وأجول بنظري فوق الرؤوس الكثيرة التي كانت جالسة إلى الموائد تأكل بنهم، رأيته قادماً إلي ومعه شخص آخر، أشار إلي وانسحب هو وتقدم الشخص الآخر باتجاهي..
- أنت مراد غريب؟
- نعم، أنا
- وماذا تفعل هنا؟
حاولت أن أبدو متماسكا وأجبته
- عفواً، ومن أنت لتسألني؟ ما شأنك بي؟.
- أنا أسألك لأني من رجال الشرطة وعليك أن تجيبني.
كنت أعلم بأن عبد الحميد الثاني لديه جهاز مخابرات قوي، ولكن لم أتوقع قط بأن يكون أول شخص ألتقيه في رحلتي لملاقاته، من رجاله. لقد وقعت في الفخ. تملكني الذعر الذي لم أستطع أن أخفي معالمه على وجهي.
- تفضّل معي لو سمحت.
- إلى أين؟
- سنذهب إلى المتصرف (رئيس البلدية).
- لكني لم أفعل شيئاً، لماذا تأخذني إلى المتصرف؟ لم أسرق ولم أقتل ولم آتي على أية مخالفة.
- بل فعلت أكثر من ذلك. أتأتي معي طواعية أم آخذك من رقبتك وأجرك على وجهك ..!!
"يا سلام"... هذا ما كان ينقصني...أن أقع بين يدي رجال عبد الحميد الثاني.
وصلنا إلى "بناء المتصرفية" (البلدية)، ومن الواضح بأن مركز الشرطة ملحق به، فقد خرج من البناء عند وصولي جماعة من الشرطة يتقدمهم شخص بدا أنه رئيسهم (صف ضابط) ينادونه شاكر أفندي، أحاطوا بي وساقوني إلى داخل البناء.
وأشار لي شاكر أفندي بأن أجلس فجلست، ولمّا سألته لماذا أنا موجود هنا، قال لي وكأنه يخفف عني: " ستقابل المتصرف وهو سيجيب على أسألتك، أما نحن فعبيد الأمر نفعل ما نؤمر به".
ولمّا سألته أين المتصرف قال: "سأقودك إلى مكتبه، ولكنه لم يرجع من القصر بعد"! قلت في نفسي .. قصر أي قصر؟ لا بد أنه في قصر يلدز، مقر السلطان عبد الحميد "مارح تمر هل الليلة على خير ".
بعد ساعة أدخلوني على المتصرف، كان وجهه مربعاً وعيناه صغيرتين ولحيته كثيفة خشنة وأنفه مفلطح كبير، والغريب أن هذا الرأس الكبير كان يحمله عنق رفيع، أعوذ بالله، حقيقة لم أرَ رجلاً أقبح منه في حياتي.
استغربت عندما نهض من وراء مكتبه وعلى وجهه ابتسامة، يحاول تصنّع اللطف معي وكأني صديق حميم له منذ سنوات، تبادلنا السلام ودعاني للجلوس على كرسي أمام مكتبه، ومن ثم عاد إلى كرسيه وراء الطاولة، ناولني سيكارة وطلب لي فنجان قهوة!، وبادرني بالحديث.
- بماذا أستطيع أن أخدمك؟.
في الحقيقة لم اكن قد تهيئت لمثل هذا الموقف، وكيف أشرح له ما أريد؟! كيف سيفهم بأني من زمن آخر...لا شك بأنه سيعتقد بأني مجنون، ويرمي بي في مشفى للمجانين أقبع فيها كل أيام رحلتي (خاصة أنهم صادروا مني أغراضي الشخصية ومنها التابلت).
من واقع معرفتي بتلك الحقبة، أعلم بأن التنقل بين أرجاء الدولة العثمانية من اليمن حتى بلغاريا، ومن حدود بلاد الفرس إلى غربي ليبيا، لا يحتاج إلى إجراءات ولا وثائق، وبناءً عليه قلت له :
- أنا صحفي أريد إنشاء صحيفة اسمها "اخبار سوريا" وكنت آمل بأن أزين عددها الأول بلقاء مع مولانا السلطان.
لم يستغرب، وكنت أتوقع بأن مرشدي الذي وشا بي قد قال له التفاصيل ولهذا كان هو في القصر.
- أستغرب جسارتك، هل علمت عن أحد قبلك قام بلقاء السلطان؟. كيف تفكر في هذا حتى؟. ألا تخشى بطش أمير المؤمنين؟.
- لست ملكاً، ولا رئيس أحد الدول، ولا لي جند ولا صاحب تاج، ما أنا إلا واحد من رعيته، ولماذا على الناس أن يخافوا من ملوكهم؟ أنا أسعى بطلب إلى جلالته، إما أن يجيب طلبي أو يرفضه.
لست مقتنعاً بهذا الكلام، فأنا أتكلم عن السلطان الأحمر المخيف الذي تلازم مع ذكر اسمه الخوف والرعب وأعمال تصل لإبادة شعوب بأكملها.
كل ما أريده هو أن تصله الرسالة علّه يقبل لقائي أو يطلق سراحي، لأني جعلت مدة هذه الرحلة، بالتحديد، طويلة. لم تكن ترتيبات اللقاء قد تمت من قبل "التطبيق" كما ذكرت، وللنجاح في مقابلة سلطان مثل عبد الحميد يجب أن يكون لدي الوقت الكافي، لذلك وضعت المدة القصوى للرحلة 10 أيام، وأنا لا أريد أن أقضيها كلها في السجن! تباً، ليس السجن وحده هو ما يخيفني، ماذا لو قتلني عبد الحميد؟! ماذا بوسع هذا "التطبيق" الأحمق أن يفعل؟!
دعا المتصرف أحد الكتّاب وهمس في أذنه كلاماً لم أسمعه، فغاب وعاد إليه وفي يده ورقة أخذها المتصرف ووقع تحتها وختمها بختمه وقال: "أرسلها إلى القصر بسرعة". فلما ذهب الرجل هممت وهممت بالخروج فردني صوت المتصرف..
- إلى أين أنت ذاهب؟
- ألم ينتهي الأمر عند هذا الحد؟
- لا مع الأسف.
- وماذا أنتظر؟
- إرادة مولانا السلطان.
عدت إلى الجلوس بعد أن أحسست بأن ركبتيَّ لم تعد تقوى على حمل ثقل جسدي، وأحسست أن المكان يدور بي. نظر إلي المتصرف، وربما لاحظ جزعي واضطرابي فطلب لي مزيداً من القهوة وعرض علي الدخان، ولكني أعرضت عنه شاكرا ..
بعد قليل جاء رجل آخر وتقدم نحو المتصرف وخرجا سويا، لم تمض إلا برهة ثم عاد كلاهما وقال لي المتصرف: "ستكون الآن في ضيافة حسين أفندي رئيس المخفر"، وتركني له ومعه ستة من الرجال الأشداء، أنزلاني إلى غرفة، علمت بأنها غرفة المعاينة، كان الوقت قد تأخر، والبرد شديد، ولا يوجد أي مصدر للتدفئة في الغرفة، فجعلت السترة التي عليّ غطائي واتكأت على يدي ونمت.
في صباح اليوم التالي، استيقظت من النوم على حديث رجلين من الشرطة، سألني أحدهم بلطف إذا كنت جائعاً فأجبت بنعم، فأتاني بالخبز المسمى "سميد" وكأس لبن، تناولت الوجبة بنهم، وجاء لي بعدها بفنجان قهوة وعرض علي التدخين فأخذت منه سيكارة مع أني لم أكن من المدخنين، ولكن لا أعرف لماذا كنت أشعر بأني بحاجة لأدخن، كان هذا يخفف من توتري قليلاً.
غادر أحد الشرطيين وبقي الآخر، وأعلمني بأنه سيتناوب على حراستي شرطيان يتغيران كل ست ساعات، في إشارة إلى أن إقامتي قد تطول، ولما رآني خائفا يائسا قال لي: " أراك ضجراً يائسا، يجب أن تتماسك، فالرجال يُعرفون عند الشدائد. سأطلب الاذن في إحضار أوراق اللعب لنقتل الوقت ونروّح عنك إلى أن يمنّ الله عليك بالخروج قريبا".
مرّ عليّي يومان وأنا على هذه الحال، أقضي النهار ماشياً من طرف إلى طرف في الغرفة، مضطجعاً على أحد المقاعد أشرب القهوة وأدخن السكائر، ولم يكن لدي أي شهية للطعام، وأقضي بعض الوقت بالحديث مع الحرس الذين كانوا في معظمهم لطفاء إلى حد كبير معي، وأحيانا نقضي طول الليل في لعب الورق.
ورغم الخوف على مصيري واستيائي من سجني هنا، إلا أني رحت أعقد المقارنات بين جهاز الشرطة أو المخابرات عندنا وهؤلاء العناصر الذين أتعامل معهم في قضية خطيرة تمس السلطان (امير المؤمنين). لا أستطيع أن أنكر بأني فوجئت إلى حد كبير بمعاملة هؤلاء الناس التي بدت معاملة "خمس نجوم" مقارنة بالمعتقلات المرعبة للأنظمة العربية اليوم بحسب ما نعرف عنها.
لا أعرف إذا كانوا يعاملون الجميع هكذا، أو أني ألقى معاملة خاصة لأني عرّفت على نفسي بأني صحفي، ولكن أشهد أنه طول فترة بقائي بينهم لم أرَ أي مظهر من مظاهر العنف أو الشدة عليّ أو على غيري من الأشخاص الذين صادفتهم في هذا المكان ومنهم كانوا سجناء وموقوفين.
في الليلة الثالثة، جاء أحد أفراد الشرطة (حسين أفندي) وأيقظني وأخبرني بأنه يجب علينا أن ننتقل من هنا، ولما سألت إلى أين قال لي
- إلى السجن.
- وألست هنا في السجن؟
- لا، كنت حتى اليوم ضيفاً عندنا، وجاءت الأوامر بترحيلك إلى السجن وسيتم التحقيق معك هناك.
وصلنا إلى بناء السجن، ولم يكن بعيداً عن البلدية. نادى السجان بأعلى صوته: "من القادم من الداخل؟" ورد عليه مرافقي: " لا احد غريب". دخلت من البوابة وقطعت ساحة السجن ووقفت مباشرة أمام مديره.
تأمل الرجل وجهي وسجّل اسمي في دفتره، وكذلك أوصافي وكل المعلومات التي يحتاجها، ثم تركني مع مرافقي الذي اصطحبني إلى طابق أعلى، صعدنا إليه من خلال سلالم بسقف منخفض.
فتح مرافقي الباب ودخلت إلى غرفة مظلمة خالية، فيها خزانة واطئة وكرسي وحيد مهترئ. أخذ شمعة من الخزانة وأشعلها، وأمر بإحضار فراش رماه على أرض الغرفة وانصرف.
وفور خروجه من الغرفة، لم تهن علي نفسي فبكيت وفكرت، ماذا فعلت بنفسي، هل يكون مصيري الموت في هذه المغامرة الغريبة؟. هل من المقدر أن تنتهي مغامرتي هنا وكأني لم أفعل شيئاً؟ كان أملي أن أبقى على قيد الحياة حتى تنتهي فترة الرحلة المحددة وأعود إلى مرسين سالماً. ومن ثم فكرت، كيف يمكنني أن أصل إلى هذا "التابلت" اللعين، تبدو الفكرة مستحيلة.
في تلك الليلة لم أقرب الفراش، ونمت جالساً على الكرسي إلى أن جاء الصباح ومرّ النهار وأنا في حيرة وانتظار وتوجس، أروح وأجيء في الغرفة الضيقة التي لا يتعدى عرضها ثلاثة امتار.
وفي أول الليل، وكانت أعصابي قد تلفت واستولى علي اليأس والخوف، استدعاني مدير السجن، أكرمني وسقاني الشاي وبدأ يحدثني بلطف وطيب، ولما انتهت الزيارة اصطحبني إلى غرفته ليعرض لي بعض الكتب التي تخصه وقال لي: "تعلم أن كتب السياسة لا تدخل بيوتنا، فكيف لنا إذاً أن نحتفظ بها عندنا، ولكن أمامك من الروايات ما شئت فاختر منها واحدة لتكون تسليتك في غرفتك.
أخذت أضخم رواية وجدتها بين الكتب، وفرحت فيها كل الفرح حيث قضيت بها أيامي الثلاثة مدة إقامتي في السجن، وكان مدير السجن كل ليلة يستدعيني ويحادثني ويخفف عني كمد الوحدة.
ورغم القلق الذي تملكني طوال تلك الفترة والخوف الذي لازمني، ولم يزل لحظة واحدة، فقد استطعت أن أتحدث إلى مدير السجن بأمر السجناء والسجون، واستفسرت فيما إذا كان الجميع يلقى المعاملة التي ألقاها أنا، فأجاب بالنفي.
ولكنه أخبرني بأن الحال قد تغير في السنوات الأخيرة، وباتت السلطنة تهتم بصورتها أمام العالم المتمدن، ولما سألته كيف كان الوضع قبل ذلك أخبرني بأن في هذا السجن سرداباً مظلما تحت الأرض، أرضه الوحل وسقفه الحجارة، لا ينفذ إليه ضوء النهار ولا يدخل إليه أي هواء نقي، وهناك برميل ماء عكر وجانبه صخرة منحوتة على شكل كرسي يجلس عليها المسجون موثقاً بالأغلال ويبقى فيها هناك فترة طويلة، ومنهم من يموت بجانبها، ولكن اليوم "لم نعد ننزل أحدا إلى ذاك السرداب"، قال لي.
كما أخبرني بأن للمساجين السياسين غرفة ضيقة طولها متر وعرضها متر، لا يستطيع السجين أن يستلقي فيها ، ولا يخرج منها إلا إذا اعترف بما عنده.
لم يحدثني أكثر من ذلك، وعندما قارنت هذه الأساليب بالصور المروعة للجثث التي سربها مصوّر كان يعمل في سجون النظام اليوم وفيها من الخروق والتقطيع والتعذيب مافيها، وجدت سجون ذاك العصر أكثر إنسانية، وسجّانيها أكثر رحمة مما هو موجود في زماننا هذا.
في اليوم الرابع ليلاً، جاءني مدير السجن وقالي لي:
- أما مللت من الإقامة في ضيافتنا؟ بالنسبة لنا فقد مللناك وسئمنا منك، سنشرب عندك القهوة الليلة وغدا تغادر.
- إلى أين تذهبون بي؟.
- إلى ساحل النجاة.
شكرت الله في سري مع أني لم أعرف ماذا يقصد بساحل النجاة بالضبط، ولكني قدّرت أنه سيتم نفيي كما كان هو معمول به في تلك الفترة من الزمن، لا يهم، المهم أن أخرج من هنا.
عند باب السجن، وقفت عربة حولها رجال استطعت تمييز أنهم من رجال الجيش العثماني، وواحد منهم من الحرس الملكي، فُتح باب العربة وأُدخلت إليها ودخل معي رجل من عناصر الجيش بالإضافة إلى الآخر من الحرس الملكي، وسارت العربة بنا يحيط بها الفرسان.
وصلنا إلى شاطئ البحر، وأُنزلت من العربة إلى زورق كبير كان راسياً على مقربة من مكاننا، وجلس الحرس الملكي إلى جانبي والرجل الآخر، الذي علمت بأنه ضابط، أمامي.
مررنا بكثير من السفن التي تحمل الأعلام العثمانية والأجنبية، حتى وصلنا إلى باخرة كبيرة اسمها "بحر جديد"، كما كان مدون على مقدمتها، لا أعرف كيف تناولتني الأيدي ونقلتني إلى متنها، وعلى الفور جاءني رجال من الشرطة، وبادرني أحدهم وأخبرني بأن الأوامر صدرت بأن تعيدني الباخرة إلى الشام عن طريق مرفأ بيروت، وناولني صرة قال فيها أشيائي التي أُخذت مني عندما تم القبض علي، وكان من ضمنها "التابلت"، وفرحتي لا توصف عندما أصبح في يدي.
تفقدته خشية بأن يكون قد فرغت "بطاريته" وكم كانت سعادتي كبيرة عندما وجدت إشارة "البطارية" عند"11%". رأيت رجل الشرطة ينظر إلي باستغراب وأنا أشغل "التابلت"، وبدأ يتحدث إلي وأنا لم أعد أسمعه، فكل ما كان يهمني هو أن أصل إلى التطبيق.
شغّلته ووضعت كفي على الشاشة... وانتقلت ..
نبش القبور
رواية تاريخية تفاعلية مستندة الى احداث تاريخية.
بقلم نضال معلوف
http://www.facebook.com/nedal.malouf
تابع تفاصيل مثيرة اخرى حول اللقاء على صفحة #نبش_القبور على فيس بوك
http://www.facebook.com/BygoneInterviews