رمضان: لماذا يصوم غير المتدينين؟
ما الذي يدفعك إلى الصيام؟ هل لأنه فريضة في دينك؟ لأنه محطة أساسية للعبادة والتقرّب من الخالق كل عام؟ لأن أمك ستشعر أنها أخفقت في تربيتك، مثلاً، إن تخلًفت؟ لأن رمضان تقليد عائلي لن تفوّته؟ لأنك تخاف من إشهار إفطارك خوفاً من حكم الآخرين عليك؟
قد تتعدّد الإجابات على هذه الأسئلة، من شخص إلى آخر. حتى أن التجربة ذاتها قد تتفاوت عند الشخص ذاته، بحسب حالته النفسية أو الصحية أو الإيمانية.
ولكن بالنسبة لكثر، يعد الصوم جزءاً أساسياً من عقيدتهم الدينية، لأنه فريضة مقدسة، ومناسبة لترسيخ اتصالهم بهويتهم الثقافية كمسلمين.
لكن ماذا عن غير المؤمنين أو غير الملتزمين دينياً أو الذين لا يعرّفون عن أنفسهم كمسلمين، ولكنهم يختارون الصوم كل رمضان؟
في بعض البلدان العربية، يسمونهم "عبّاد رمضان"، أي أولئك الذين يتخلفون عن فروض دينهم طوال العام، ويعتنقون التقوى في رمضان فقط.
لكن حديثنا ليس عن هؤلاء، ولا عن الراغبين بالظهور بمظهر "الأتقياء"، تجنباً لضغوط اجتماعية ما. بل حديثنا عن أشخاص لا يرتبطون بالدين وفروضه ارتباطاً وثيقاً، لكنهم يصومون لأسباب غير عقائدية.
بي بي سي نيوز عربي سألت نساءً ورجالاً من دول عربية مختلفة عن تجربتهم في هذا المجال. ولأن مسألة كشف المعتقدات الخاصة حساسة، وافقوا على الحديث معنا شرط عدم الكشف عن هويتهم.
بالنسبة للأغلبية، تنحصر الإجابة عن سبب الميل إلى الصوم بعاملين: عامل نفسي روحاني، وعامل عائلي اجتماعي.
رأس السنة الروحية
يقول لنا فؤاد من لبنان، إن رمضان بالنسبة له هو "أشبه برأس السنة الروحية، فكما يأخذ معظم الناس قرارات ليلة رأس السنة لتنفيذها خلال العام، يكون رمضان مناسبة عندي لأخذ قرارات على المستوى الصحي، ولاتباع عادات جديدة، وللتحفّز على التغيير. شهر كامل يعد مدّة كافية لكي تتعلمي عادةً جديدة. تذكير النفس ببعض الانضباط والصبر مش غلط".
يخبرنا فؤاد أنه حين "فقد إيمانه"، كان يعيش خارج لبنان، لكنه ظلّ يصوم. "لم يكن موقفي عدائياً ضد الدين، وأنا في الأساس أحب جو رمضان، والألفة فيه، وكنت أشعر خلال غربتي أن للصوم معنى روحياً، وأنه صلة مع أهلي في البلد".
إلى جانب الرابط العائلي، يقول إنّ التفكير بالفقراء خلال هذه الفترة من السنة، أمر مهم. "بالطبع يمكننا التفكير في الفقراء طول العام، لكن جو الغفران والعطاء والتبرع لدور الأيتام خلال الصوم ملهم بالنسبة لي، وله قيمة وليس اعتباطياً".
عند عودته إلى لبنان، انقطع فؤاد عن الصوم. "لو صمتُ هنا سيكون ذلك أشبه بالرياء، كأني أوحي لمن حولي أني لم أتغير، سأكون كمن يخفي حقيقة تفكيره، ولم أرد ذلك".
تطهير روحاني
تأخذ تجربة الصوم في الغربة بعداً ثقافياً ووجدانياً بالنسبة لكثر، وليس بالنسبة لفؤاد فقط.
تقيم بسمة من تونس، في مدينة أوروبية، وتبدأ الاستعداد لرمضان قبل أسابيع من موعده، بالرغم من أنها غير متدينة ولا تمارس أي طقوس دينية خلال العام، وتقول إنها غير صارمة مع ابنتها في موضوع الدين والعبادة.
"كانت والدتي متدينة، وكانت متمسكة جداً بالعبادات والطقوس، ولكن عندما كبرت وخرجت من البيت تمردت على تلك العادات. بعد وفاة والدي، وسفري، بقي لرمضان مكانة غالية عندي، كنوع من الحنين إلى الماضي، وإلى جمعاتنا العائلية".
تحب بسمة الصوم وتجهيز المائدة والزينة، وتشتري الصحون والشراشف والورود للاحتفال، وتحرص على الاتصال بالأقارب ومعايدتهم، وسؤالهم يومياً عن الأطباق التي يعدونها للإفطار.
وخارج شهر الصوم، تتبع طوال السنة نظاماً غذائياً يقوم على الصوم المتقطع، وتصف تلك العادة بأنها شكل من "التطهير الروحاني وليس الديني".
تخبرنا: "ساعدني الصوم على الانضباط والالتزام، إن كنت أستطيع أن أتخطى عدم تناول الطعام في الصباح، سأكون قادرة على تخطي أي شيء. أشعر بذلك أنني أقوى، وأنني مسيطرة على شهواتي وعلى نفسي".
وتضيف: "الصوم يعطي طاقة للجسم، فحين تصومين، يكون عليك أن تختاري بعناية ماذا تأكلين. وهذا مهم للانضباط الصحي والنفسي في آن، كما يحسن لي مزاجي".
يقظة ووعي تام
العامل النفسي مهم جداً بالنسبة لراغدة من لبنان لأنها تمارس تقنية الوعي التام أو اليقظة (Mindfulness).
تقول: "الصيام يُساعد في التأمل، واستحضار طاقات العقل الإدراكية، يساعدك بأن تكوني حاضرة ذهنياً، من خلال طرد فكرة الأكل، واقفال الخانة المخصصة لها في الرأس، ما يجعل إدراكك حاضراً في أماكن أخرى أكثر".
خلال طفولتها ومراهقتها كانت راغدة متدينة ومؤمنة جداً، لكنها تخلت خلال سنوات لاحقة من حياتها عن كثير من العادات والطقوس، واكتفت بالحفاظ على عادة الصوم لأن "هناك فائدة ترجى منها"، بحسب تعبيرها.
تقول: "ارتباطي بالصيام عاطفي من ناحية، لأني أحب جمعة العائلة وجو الألفة. حتى أولادي لا يمارسون أي شعائر دينية، لكنهم يحبون طقوس رمضان. ومن ناحية أخرى، أجدها تراثاً حضارياً ودينياً أحبّ التمسّك به".
تشجع راغدة أولادها على الصوم، لأنه "يساعد على تهذيب النفس ويعلم الانسان الصبر، ومن يتغلب على الشعور بالجوع والتعب والوهن، يكون قادراً على التغلب على تحديات أكبر في الحياة".
ارتباط بالقوة العليا
بدوره يحافظ راوي من لبنان على الصوم كنوع من تدريب الذات. لا يعدّ نفسه ملحداً، بل غير ممارس للدين، "وربما لو عشت من ألف عام لكنت من فرقة المعتزلة"، وهي فرقة إسلامية ازدهرت في العصر العباسي وقدمت العقل على النقل.
يقول: "أعتبر أن الصوم فرصة لي، على المستوى الشخصي، لأعيش حالة التزام وانضباط، ولتمرين الذات على التقشف، ولأذكر نفسي كإنسان بالآخرين".
ذلك أيضاً ما يدفع عربي من تونس للصوم، فإلى جانب المعطى الصحي، يعتقد أن الصيام هو "تنظيف للروح".
يقول: "أومن بالحق والخير والجمال، وأعتقد أن الدين يستخدم في السياسة أحياناً كثيرة، لكن العادات مثل الصيام، أو أشكال الإماتة الأخرى الهادفة للشعور مع آلام الآخرين، هي طريقة لجعل العلاقة عمودية مع الله من دون وسطاء".
وكذلك، لتوطيد علاقتها بـ "القوة العليا"، كما تصفها، بدأت إيمان من مصر المواظبة على الصلاة، منذ مدة، وقررت صوم رمضان بعد أعوام من الانقطاع لظروف صحية.
تعاني إيمان من مرض مزمن، يشعرها أن سيطرتها على جسمها مفقودة، لذلك فإن فكرة الصوم والانضباط تعطيها شعوراً بأن استعادت تلك السيطرة.
تقول ايمان إنّها لا تؤمن بتعاليم الإسلام كلها، "لكن أهلي متدينين، وجو الصوم مألوف بالنسبة لي، لذلك أجده مناسبة للتواصل مع القوة العليا، مع شيء أكبر مني، ولأذكر نفسي بأن أكون متواضعة".
المصدر : بي بي سي عربي