كيف سخر نظام الأسد الجماعات الدينية لتمكين حكمه؟
يقول الكواكبي رحمه الله في كتابه (طبائع الاستبداد) : " ما من مستبد إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقاماً ذا علاقة مع الله، ولا أقل من أن يتخذ بطانة من خَدَمَة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله»..
وبالعودة إلى من سماهم الكواكبي (خَدَمة الدين) فإن الأنظمة المستبدة عملت في كل مجتمع تجذرت فيه أن تجعلهم من مدارس وتوجهات وتيارات دينية متعددة لضمان تأثيرهم على أفراد الشعب أياً كان توجههم الديني ، فهم ليسوا من جماعة معينة ، أو تيار معين ، فنظام البعث على سبيل المثال وعلى مدى خمسين عاماً استغل مؤسسات وتوجهات دينية مختلفة فركب موجتها وأعطاها مساحة من النور والقبول مقابل ما منحته من تأييد وترسيخ وأذكر منها:
الدعوات الصوفية ، الموغلة في شطحاتها والتي تعتمد على دروس في الوعظ كانت تنال شهرة كبيرة ، ويقصدها الناس من كل مكان ، وجل مافيها قصص وحكايات ترسخ مكانة الشيخ وتدعو لطاعته العمياء وكراماته ، وتؤكد على تقديس الأضرحة والأولياء ، والدعوة لقضاء جل الوقت في الذكر والأوراد والحضرات ، واقتصار مفهوم العبادة على ذلك، على نحوٍ يعزز الانسحاب من أي دورٍ فاعل أو إيجابي في الحياة ، ناهيك عن محاربة الباطل ونصرة المظلوم ، والأخذ على يد الظالم، إذ وجد النظام في هذا الفكر أكبر سماد لنبتة الاستبداد فدعمه وسمح له بالوجود والانتشار الفكر الجبري الذي تقوم عليه بعض الدعوات الدينية والذي ينفي عن الإنسان أية حيلة أو قدرة أمام كل واقع يكون فيه، فكل ما يحلّ بالإنسان إنما هو بتقدير الله ، وما كان قدراً من الله فمن المعصية رفضه أو محاولة تغييره مهما كان سيئاً… فنسمع أصوات هؤلاء يدعون على المنابر:" اللهم وفق عبدك هذا الذي وليته أمرنا للحكم بكتابك والسير على شريعتك"
فالحاكم – مهما كانت طريقة وصوله للحكم ، ومهما كان ظالماً سفاحاً خائناً – فإنما تولى الحكم بأمر من الله … وبالتالي يحرم القيام عليه ، ويستوجب الذين يفعلون ذلك حدَّ الحرابة، ناسين أو متناسين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه عمهم الله بعقابه "[1] ،
وقوله: "سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" [2]، وقوله: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"[3].
الدعوات التي تركز على طلب العلم وتعلُّمه والاستزادة منه ، وتنشئ لذلك الصروح التعليمية والمعاهد والجامعات وتسعى للاعتراف بها ، فكان لها ما تريد مقابل تأييدها للاستبداد والسير في ركابه وترسيخ جذوره وأركانه ، وتحريم مواجهته أو رفضه ، بل وتأييد بطشه وإجرامه
مجموعات الدعوة النسائية التي بدأت تُعقد في بيوت دمشق ، ومن ثم اتسعت في كامل الأرض السورية منذ سبعينيات القرن الماضي ، على نحو ضيق ومحدود ، ومحاط بالرقابة الأمنية ، ثم ما لبث نظام البعث بعد أن علم منهجها الدعوي المركز على عبادة الشعائر ، والمقتصر على النساء دون الرجال أن ركب موجتها أيضاً ، فباركها ، ومنحها الرضا ، والموافقة، وفتح لها أبواب المساجد لتبقى تحت جناحه مقابل تأييدها له وقبولها به ...
الفكر الديني المتشدد القائم على رفض كل ما هو جديد وتسميته بأنه بدعة وتقليد للكفار، والمتطرف أيضاً في تكفير الآخرين ، والساعي لإقامة الخلافة الإسلامية إذ عمل النظام على تزكية هذه الجماعات وقبولها بل وتمويلها وتسليحها وإطلاق يدها لتكون الصورة المرعبة المعبرة عن الإرهاب الذي يخيف به الداخل والخارج...
وفي كل الجماعات الإسلامية التي ركب النظام موجتها لترسيخ استبداده كانت المركزية التي في هذه الجماعات أهم عوامل ترسيخ مركزيته –هو- وانفراده بالسلطة واستئثاره بالحكم، فالجماعات التي تخضع لشيخ واحد ، أو كان على قمة هرمها رأسٌ واحد يحظى بالاتباع والتقدير والتقديس لم يكن من عبءٍ على النظام لكسب تأييد جموعها الغفيرة إلا تسخير هذه القيادة والسيطرة عليها إقناعاً أو تخويفاً، عندها فجموع المريدين وعامة الشعب التي تسير دوماً وفق رأي الشيخ أو الداعية –الأكبر- وتأتمر بأمره وتنفذ ما يقول ستكون قيادتها سهلة والتحكم بها بسيطاً...
وفي وقت نتطلع فيه للتغيير نستذكر ما وضحه الكواكبي في طبائعه عن كيفية زوال الاستبداد إذ بيّن أن الاستبداد لا يزول بزوال المستبد ، بل بتفكيك البنية التي تُنتج هذا الاستبداد !!... مهمة لا تحمل مسؤوليتها إلا الشعوب..
سهير أومري - سيريانيوز
[1] رواه أبو داود - في السنن - كتاب الملاحم - باب الأمر والنهي - رقم: 338 (5 / 56)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح،
[2] رواه الحاكم في المستدرك - كتاب معرفة الصحابة - باب ذكر إسلام حمزة رضي الله عنه (3 / 195)، قال الحاكم: صحيح الإسناد،وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة - رقم 374ـ (1 /716).
[3] رواه أبو داود في السنن – كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي - رقم 4344 (5 / 59) ,