مساهمات القراء

قصة دستور المدينة: عندما أصبحت الاختلافات نسيجًا واحدًا ..بقلم: كاتب عربي

مساهمات القراء

28.09.2025 | 19:28

كانت يثرب، تلك الواحة الوادعة في صحراء الجزيرة العربية، على موعد مع قدرها. عامٌ بعد عام، وصراعٌ بعد آخر، كانت الحروب القبلية تستنزف قوى أهلها. لكن رياح التغيير كانت تهبّ من بعيد. وفي يومٍ مشهود، وصل إلى أبوابها رجلٌ مع دعوة إنسانية، حاملًا في قلبه رؤيةً لمجتمعٍ جديد.

لم ينظر هذا القائد إلى أهل يثرب بقبائلهم المتناحرة والجماعات المختلفة التي تسكن بينهم كعبء، بل رآهم كنوزًا متنوعة يمكن أن تبنى منها حضارة. رأى في عيون الجميع شغفًا بالاستقرار والأمان. وهناك، في خضم هذا التنوع الفريد، ولدت فكرةٌ ثورية: لماذا لا نكتب وثيقةً نلتزم بها جميعًا؟

اجتمع ممثلون عن كل أطياف المدينة: من كانوا فيها من سكانها الأصليين، ومن قدموا إليها مهاجرين، وأتباع الديانات المختلفة. جلسوا معًا، يناقشون ويحاورون، ليس من منطلق القوة والضعف، بل من منطلق الشراكة في مصير واحد.

وبعد حوارٍ؛ خرجوا بوثيقةٍ. لم تكن مجرد أوراقٍ تكتب فيها القوانين، بل قصة عهد جديد. كانت البنود الأولى تنطوي على مفهوم المجتمع الواحد لتخلق وتكرّس حالة أصيلة تهزّ أركان العصبية القديمة. لأول مرةٍ في التاريخ، يصبح الانتماء إلى الأرض والمبادئ هو الهوية الجامعة، لا الدم أو المعتقد.

وتستمر القصة داخل نصوص هذه الوثيقة العظيمة، فتنقلب الصفحة على كل الموروثات. هنا نجد بندًا يعلن حرية الاعتقاد كحجرَ زاوية في المجتمع الجديد. وتظهر بنودٌ أخرى تروي قصة التكافل، فتُلزم الجميع بالدفاع عن المدينة إذا تعرّضت للخطر، وتنصّ على أن يظلّ السلام بينهم قائم والتعاون إطار العيش اليومي "كالجسد الواحد".

لم تكن تلك الوثيقة مجرد اتفاقية سياسية، بل كانت رواية تأسيس لمجتمعٍ متحضّر. لقد حوّلت سكان يثرب من جموعٍ متفرقة إلى شعبٍ واحد، يشعر الغريب بالأمان، ويجد الضعيف من ينصره، ويعلم الكل أن القانون هو سيد الموقف، لا الأهواء والنزعات.

اليوم، وبعد قرونٍ طويلة، لا تزال قصة "دستور المدينة" تروي لنا أعظم الدروس. درسًا عن كيف أن الاختلاف لا يجب أن يكون سببًا للفرقة، بل يمكن أن يكون مصدرًا للإثراء والقوة. درسًا عن أن التعايش ليس شعارًا، بل ممارسة يومية قائمة على العدل والاحترام. إنها قصة من الماضي، لكن رسالتها خالدة إلى يومنا هذا، تذكرنا دائمًا أن الوحدة في التنوع ليست حلمًا، بل هي اختيار يمكن تحقيقه بالإرادة والحكمة.

إن الحاجة ملحة اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى إلى العودة إلى هذا الجذر الأصيل، إلى هذا النهج الذي أثبت نجاحه عمليًا في بناء مجتمعٍ قويٍ ومتماسك. ليس أمام شعوب المنطقة، وهي تواجه أعاصير التفرقة وزلازل الفتن، من مسلكٍ واضحٍ وطريقٍ آمنٍ سوى العودة إلى هذا المنهج الحكيم. فهو النموذج الوحيد الذي جمع بين القوة والعدل، وبين الهوية والانفتاح، وبين الثبات على المبادئ والمرونة في التطبيق.

-----------------------------------------------------------------------

*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع

*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]