في المشهد السوري الراهن، يطفو على السطح تناقض صارخ بين الخطاب الرسمي للسلطة الحالية بقيادة أحمد الشرع، وبين الممارسات الفعلية على الأرض. هذا التناقض يدفع المراقب إلى موقف متحفظ ليس تشاؤماً مطلقاً ولا تفاؤلاً ساذجاً، بل وقفة تأملية أمام هذه المفارقة. في هذا السياق، يبرز مفهوم "التشاؤل" كأداة تحليلية ضرورية: موقف عقلي يتجاوز ثنائية التفاؤل والتشاؤم، ليتموضع في حيز نقدي واقعي يتسلح بالأمل العقلاني ويرفض الانخداع بالشعارات.
أولاً: الخطاب الرسمي - وعود براقة بلا أسس تنفيذية
تقدم السلطة الحالية خطاباً متقدماً على الصعيد النظري. فهو مليء بالتأكيدات على مبدأ المواطنة المتساوية، والتعددية، وحماية حقوق الأقليات، والوحدة الوطنية، والمصالحة الاجتماعية. في الخطاب، تبدو سوريا الجديدة وكأنها على أعتاب تحوّل ديمقراطي شامل. ويظهر الرئيس أحمد الشرع في العديد من المناسبات وهو يؤكد أن "سوريا لكل أبنائها دون تمييز"، مشدداً على ضرورة بناء عقد اجتماعي جديد يتجاوز إرث الاستبداد والطائفية. كما يتم الترويج لمشاريع قوانين جديدة تعزز استقلال القضاء، وتنظم عمل الأحزاب، وتحمي الحريات العامة.
ثانياً: الواقع المرير - استمرار الممارسات القديمة بثوب جديد
رغم هذا الخطاب المتقدم، تظهر الوقائع الميدانية صورة مغايرة. فالتقارير الإعلامية والحقوقية المحلية والدولية تكشف عن نمط ممارسات سلطوية لا تختلف كثيراً عن سياسات النظام السابق، بل وتعيد إنتاجها أحياناً بصيغ أكثر تنميقاً. نرصد هنا أبرز تجليات هذا التناقض:
1- التمييز الطائفي الممنهج:
2- العنف الأمني:
3- غياب العدالة:
ثالثاً: من يقف خلف التحالف السلطوي؟
يلاحظ تشكل تحالف سلطوي جديد يتقاطع فيه العسكر مع رجال أعمال صاعدين، ووجوه من النخب الحزبية والدينية التي أعادت التموضع بعد سقوط النظام السابق. وتشمل "النخب الحزبية" هنا شخصيات من أحزاب سياسية كانت تنشط ضمن هامش النظام السابق أو في ظله، واستثمرت خبرتها السابقة وعلاقاتها للدخول في المعادلة الجديدة دون تبني مسارات تغيير جذري. هذا التحالف يضبط المشهد السياسي والإعلامي، ويحتكر الفضاء العام عبر السيطرة على أدوات الدولة وأذرعها الأمنية والإدارية. ويبدو أن هذا التحالف يسعى إلى ترسيخ شكل من "الاستقرار السلطوي" عبر تحجيم المعارضة، ومأسسة الولاء، وتعطيل أي آليات حقيقية للمساءلة.
رابعاً: السياق التاريخي - القطيعة المجهضة مع ماضي الاستبداد
من المفيد وضع هذا التناقض في سياقه التاريخي. فالممارسات الحالية لا تمثل قطيعة مع ممارسات النظام السابق بقدر ما تبدو استمراراً لها، وإن ارتدت ثوباً جديداً. وهذا يذكرنا بمقولة المثل المصري: "اسمع كلامك أصدقك، أشوف عميلك أستغرب". فقد أُتيحت فرصة تاريخية لبناء نموذج ديمقراطي جديد في سوريا بعد سقوط النظام السابق في ديسمبر 2024، لكن ما جرى حتى الآن يشير إلى بطء الإصلاح، وتغوّل العقل الأمني على منطق الدولة المدنية.
خامساً: تحليل متوازن عبر منهج التشاؤل
لعل أبرز ما يحتاجه المشهد السوري هو التحليل المتوازن، الذي لا يسقط في فخ الشك المطلق ولا في فخ الأمل المفرط. هنا يبرز مفهوم "التشاؤل"، كما صاغه إدوارد سعيد، كمنهج فكري ضروري. فهو لا يرفض الأمل، بل ينقيه من الأوهام، ويؤسس لرؤية نقدية تعترف بالإنجازات النظرية دون أن تغفل عن رصد التعثرات والتراجعات.
1- الجانب الإيجابي:
2- الجانب السلبي:
سادساً: نحو عقد اجتماعي جديد
إن الواقع السوري الراهن يطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة الدولة المنشودة، وشكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فهل سنبقى ندور في حلقة إعادة إنتاج الاستبداد، أم أننا قادرون على التأسيس لمجتمع سياسي جديد؟ الجواب مرهون بمدى قدرة السوريين على تجاوز الخوف، وتفعيل مؤسسات الرقابة، وبناء إعلام حر، ومجتمع مدني مستقل.
الخاتمة:
المشهد السوري اليوم يحتمل قراءتين متوازيتين: قراءة تعترف بالتغيير النسبي في الخطاب، وأخرى تنتقد استمرار الممارسات القديمة بأشكال جديدة. فالمطلوب ليس موقفاً متشائماً يرفض كل شيء، ولا موقفاً متفائلاً يتغاضى عن الانتهاكات، بل موقفاً نقدياً يواصل المطالبة بتحويل الكلام إلى أفعال، والخطابات إلى سياسات ملموسة. وفقط عبر هذا المنهج، يمكن للمجتمع السوري أن يتجاوز الانقسامات والهواجس، ويطالب بسياسات تتجاوز الشكل إلى الجوهر، ومن خطاب المواطنة إلى ممارستها فعلياً. التشاؤل هنا ليس تأملاً نظرياً عابراً، بل أداة للمساءلة، وللتشبث بالأمل العقلاني لا الوهم الطوباوي. إنها لحظة اختبار للضمير السوري الفردي والجماعي، واختبار لقدرة هذه المرحلة على أن تكون بوابة تحول حقيقي، لا إعادة إنتاج لوجوه وأدوات الفساد السابقة.
بقلم: جمال حمور
----------------------------------------------------------------------
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]