دمشق تدّعي الأبوة، والسويداء تبحث عن كفيل آخر بقلم: جمال حمّور

مقالات واراء

05.10.2025 | 10:12

تشهد محافظة السويداء منذ أحداث يوليو/تموز 2025 لحظة فارقة في مسارها السياسي والاجتماعي. الاشتباكات الدامية التي اندلعت بين مجموعات درزية وعشائر بدوية، وما خلّفته من مئات القتلى والمفقودين والمخطوفين، أطلقت دينامية جديدة تتجاوز حدود المحافظة لتصبح مسألة سياسية كبرى مطروحة على أجندة دمشق، عمان، وواشنطن. ففي منتصف سبتمبر/أيلول، أعلنت وزارة الخارجية السورية، بالتنسيق مع الأردن والولايات المتحدة، عن خارطة طريق لحل أزمة السويداء واستقرار جنوب سوريا. لكن الرد السريع والقاطع من "اللجنة القانونية العليا" التابعة للزعيم الروحي للطائفة الدرزية الشيخ حكمت الهجري، كشف عن عمق الشرخ بين الرؤية الرسمية الدولية وبين تطلعات جزء أساسي من المجتمع المحلي.

خارطة الطريق الرسمية: رؤية اندماجية تحت السيادة

الوثيقة الثلاثية (دمشق – عمان – واشنطن) قامت على جملة مرتكزات: التأكيد على وحدة سوريا وسيادتها، التعامل مع السويداء كجزء لا يتجزأ من الدولة، وطرح خطوات عملية لإعادة دمج المحافظة في مؤسسات الدولة. أبرز ما تضمنته:

  • دعوة لجنة التحقيق الدولية للعمل بالتوازي مع القضاء السوري في التحقيق بالأحداث الأخيرة، مع التأكيد على محاسبة المسؤولين وفق القانون الوطني.
  • خطوات إدارية تتعلق بتشكيل مجالس محلية، شرطة محلية تضم أبناء المحافظة، وتفعيل المؤسسات المدنية.
  • إعادة الخدمات الأساسية والإعمار بدعم مالي من الأردن والولايات المتحدة.
  • نشر قوات وزارة الداخلية على الطرق الحيوية لتأمين حركة المدنيين والتجارة.
  • دعم المصالحة الوطنية عبر لقاءات محلية تجمع الدروز والمسيحيين والسنة والبدو.
  • آلية لمراقبة التنفيذ تحافظ على سيادة الدولة السورية.

هذه الرؤية تضع السويداء في قلب مشروع "إعادة بناء الدولة السورية"، مع مقاربة تدريجية لإعادة الثقة، لكنها تبقي القرار النهائي بيد دمشق مع شراكة أردنية–أمريكية داعمة.

رد اللجنة القانونية: أزمة ثقة جذرية

بيان اللجنة القانونية العليا جاء رافضًا بالكامل لهذه الرؤية، بل وطرح مقاربة مضادة. جوهر الرد يمكن تلخيصه في النقاط التالية:

  • اتهام الدولة السورية بأنها طرف مباشر في المجازر والانتهاكات، وبالتالي لا يمكن أن تكون مرجعًا للتحقيق أو المحاسبة.
  • وصف القضاء السوري بأنه مسيّس وغير قادر على ضمان عدالة حقيقية، ما يجعل الحديث عن المحاسبة عبر القانون الوطني مجرد "واجهة لتبييض الجرائم".
  • رفض فكرة المجالس المحلية والقوات الشرطية المشتركة، باعتبارها محاولة لفرض وصاية جديدة وزرع فتنة داخل المجتمع المحلي.
  • التشديد على أن ما جرى في يوليو يشكل "جرائم ضد الإنسانية"، ما يستدعي محاسبة دولية مستقلة.
  • طرح "حق تقرير المصير" كخيار قانوني وأخلاقي لأبناء السويداء، سواء عبر إدارة ذاتية أو حتى الانفصال كملاذ أخير لضمان الأمن والكرامة والوجود.
  • دعوة المجتمع الدولي والأمم المتحدة لعدم الاعتراف بأي ترتيبات تُفرض من دمشق.

بهذا المعنى، فإن اللجنة لا تكتفي برفض الخطة، بل تحاول نقل المسألة إلى بعد حقوقي–دولي يتجاوز التفاهمات الإقليمية–الدولية التي أنتجت خارطة الطريق.

التناقض الجوهري: الدولة كحل أم كجزء من المشكلة؟

المقارنة بين النصين تكشف عن تناقض جذري. فبالنسبة لدمشق وشركائها، الدولة السورية هي الضامن للاستقرار والوحدة الوطنية، وأي حل يجب أن يتم من خلالها وبقيادتها. أما اللجنة القانونية، فترى أن الدولة نفسها هي المتهم الأول، وبالتالي لا يمكن أن تكون الحكم. هذا التناقض لا يقتصر على تفاصيل تقنية، بل يتعلق بجوهر العملية السياسية: من يملك الشرعية ومن يقرر مستقبل السويداء؟

تقييم الحالة الراهنة

  1. أزمة شرعية مزدوجة: دمشق تحاول أن تفرض نفسها كسلطة شرعية مسؤولة، لكن المجتمع المحلي (أو جزء واسع منه) يعتبرها فاقدة للشرعية.
  2. خطابان متناقضان: الخطاب الرسمي يتحدث بلغة المصالحة والإصلاح الإداري، بينما خطاب اللجنة يتحدث بلغة الحقوق الدولية والجرائم ضد الإنسانية.
  3. البعد الإقليمي والدولي: خارطة الطريق تستند إلى محور سوري–أردني–أمريكي، مع انفتاح على تفاهمات مع إسرائيل في الجنوب، في حين تسعى اللجنة إلى تدويل الملف عبر الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
  4. المجتمع المحلي المنقسم: لا يمكن إغفال وجود تيارات داخل السويداء، بعضها قد يرى في خطة الدولة فرصة لاستعادة الاستقرار والخدمات، وبعضها الآخر يرفض أي عودة لسلطة دمشق.

استشراف المستقبل

  • السيناريو الأول: المراوحة والاستنزاف. وهو الأكثر ترجيحًا على المدى القريب. حيث ستبقى السويداء في حالة هدنة هشة، مع استمرار التوتر والاتهامات المتبادلة، دون تقدم حقيقي في إعادة دمجها.
  • السيناريو الثاني: التدويل. إذا تصاعدت الانتهاكات أو فشلت خارطة الطريق، قد ينجح خطاب اللجنة في جذب دعم أممي وأوروبي، ما يفتح الباب أمام صيغة "إدارة ذاتية" برعاية دولية.
  • السيناريو الثالث: الاحتواء. قد تحاول دمشق، بدعم أردني- أمريكي، تقديم تنازلات ملموسة (إفراجات واسعة، إعادة إعمار جدي، تمويل دولي للخدمات) بما يكفي لاحتواء الأزمة وإضعاف خطاب اللجنة.
  • السيناريو الرابع: التصعيد نحو الانفصال. وهو الأخطر، حيث قد تتحول دعوات "حق تقرير المصير" إلى مشروع سياسي فعلي إذا فشلت الحلول الوسط، وربما تجد دعمًا خارجيًا في سياق إعادة رسم خرائط النفوذ في سوريا.

بالنهاية، خارطة الطريق الرسمية تمثل محاولة لاحتواء أزمة السويداء ضمن الإطار السيادي السوري، لكنها تعاني من ضعف الثقة وغياب الضمانات الدولية، فيما يمثل رد اللجنة القانونية تحديًا مباشرًا لهذا الإطار عبر التلويح بخيار تقرير المصير. فالفجوة بين الطرفين كبيرة، ما يجعل الحل مرهونًا بمدى استعداد دمشق لتقديم تنازلات حقيقية، وبمدى قدرة المجتمع الدولي على لعب دور ضامن. وإلى أن تتضح موازين القوى، ستبقى السويداء معلّقة بين مشروع الاندماج ومشروع الانفصال، وهو وضع قد يحدد ليس فقط مستقبل الجنوب السوري، بل شكل الدولة السورية نفسها في المرحلة المقبلة.

 

---------------------------------------------------------------------------

*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع

*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]



Contact
| إرسال مساهمتك | نموذج الاتصال
[email protected] | © 2025 syria.news All Rights Reserved