-

غرفة معتمة في فندق التاريخ .. بقلم : محمد نجدة شهيد

29.08.2016 | 11:11

كان اشقى الناس .. جسم تعب ونفس خائفة. قاوم السنين طويلاً .وغالط حساب عمره. لا أحد يدري كيف استطاع أن يستمر في عمله طوال هـذه السنين بقدراته العادية وشخصيته الباهتة وهو يُظهر التواضع والسماحة الزائفة .

 

كان قصيراً ظاهر القصر ذو شخصية مستكينة لا تعادي حتى الشيطان. ساعد قصره كثيراً في تكوين شخصيته على هـذا النحو. لم يغير ارتداء بدلته السوداء وربطة عنقه من نفس اللون ولعله مات بها. أزلوّه حين قبروه لسنوات في قبو المخزن الكبير ينسخ من كتب التاريخ بريشة نادرة. وبعدها تجاهلوه وازدروه لسنوات أخرى بانتظار أن يُعلن عن موته رسمياً. يحس المرء في قسمات وجهه إحساسات القهر الخفية التي يُعانيها تحت أبهة المخزن .

 

 

أضاع فرصة العمر ليصحح صورته في المخزن، ويسير بالناس سيرة حسنة تضفي عليها ما يريد من محاسن بعد خدمة نصف قرن عانى فيها من أمرين اثنين. التهميش والإقصاء لدرجة الازدراء وهو ما يقوم به الآن حيال الآخرين بلا استثناء. والثاني كلام الموظفين عن علاقة تدعو للحيرة مع مستخدم لص يُدعى مروان يُمارس عليه وصاية صارمة منذ عقـود.

 


آثر البقاء وحتى الرمق الأخير في صورة عجوز خرف غير راغب أو قادر على التملص في أي وقت من الأوقات من هـذه العلاقة. وهكذا بقي أسير هذا المستخدم اللص الذي أصبح بالنسبة له بمثابة الآخر إلى أن أتاه اليقين، وانتقل إلى غرفة معتمة تفوح منها رائحة ثقيلة في فندق التاريخ أمام بئر يسكنها عفريت صغير ، فضاع بذلك إرث كان يُمكن أن يُخلّـده في تاريخ المخزن وربما في تاريخ البلاد على حد سواء.

 

 

كتب سيرة حياته بإسلوب تفوق فيه على أبو العبد البيروتي نفسه. كانت مواقفه طيلة السنوات الطوال الماضية كمن اطلع على الغيب أو أتخذ عند الرحمن عهدا. انبرى له من صحح هـذه السيرة وقام بوضعها في إطارها الصحيح .. إطار المستخدم اللص مروان .

 

 

أي مدير كنت لكم ؟

عندما شعر النبي عليه السلام بدنو الأجل، صعد المنبر وسأل الناس أي نبي كنتم لكم؟ من كانت لهُ قِبَلِي مظلمة فليقم فليقتص مني، فالقصاص في دار الدنيا أحب إلي من القصاص في دار الأخرة .فقالوا جزاك الله من نبي خيراً.وبعد ثلاثة مناشدات قام من بين كل الناس رجل واحد يُقال له عكاشة.

 


قصاص يُطالب به النبي من نفسه؟! وهكذا كان، وهو لم يقم بما ذكره عكاشة عمداً. ولو أراد مدير المخزن الكبير ، وقد وصل إلى أرزل العمر، إبراء ذمته لإراحة ضميره كما فعل النبي عليه السلام، لكان قد سمع ماذا ولقام من؟

 

 

حدثته نفسه لفترة وجيزة بشيء من هـذا القبيل..أوليس لكم في رسول الله أسوة حسنة. جمع كل ما يملك من شجاعة وتهيأ للموقف لكنه سرعان ما تخاذل. أدرك أن طرح مثل هـذا السؤال سوف يستحضر في أذهان الجميع على الفور صورة المستخدم  اللص مروان..صورة هي كل الحكاية .

 

كوابيس سوء الهضم

 

تطلع خلفه فلم يجد إلا أرضاً قاحلة .تنهد واشعل سيجارة حمراء طويلة. كان يُعاني يومياً من كوابيس سوء الهضم بعد أن أختزل الحياة كلها وما فيها في متعة الأكل. يطحن الطعام كمن يغوص في جوفه جوع قديم. أو ربما اصابته هـذه الشراهة المفرطة للطعام بعد أن ماتت بشكل مبكر جميع الغرائز والحواس الأخرى في داخله ولم يبقى فيه نشطاً إلا لسانه.

 


كان ضحية هاجس لا يفارقه.. أن يكون ضحية مؤامرة تستهدف كرشه الضخم الذي يكاد يحاذي طرف ذقنه. فكان دائماً يتحسس أطرافه من جميع الجهات يريد أن يُطمئن نفسه بفشل المؤامرة. كان يشعرأنه لو سعى في الطريق لكان هناك ممن طردهم من المخزن بدافع الحقد والكراهية يمزق ثيابه ويجذبه من شعره ، وربما من يركله.

 

 

أمضى السنوات الطوال في فروع المخزن الخارجية، ومنها عقد كامل في بلاد العام سام مع مروان في بيت واحد، ومع ذلك لم يتقن لغة البلاد . وهو يتحدث الانكليزية مثل الفرزدق عندما كان يُنشد الشعر..كالنحت في الصخر.


كان وجهه مثل قناع كثيف لا يُظهر أي انفعال أمام الأقاويل التي كانت تتناوله والمستخدم اللص مروان منذ أكثر من ربع قرن. لم يرد على أي منها كونه رأى فيها ما يحجب حقيقة هـذا المستخدم اللص . كان يجلس خلال بعض زياراته إلى عاصمة المعز في قهوة المعلم كرشة في زقاق المدق بحي الازهر الشريف على طاولة قريبة من دورة المياه يستمع إلى أغاني أم كلثوم وأخبار الإذاعة البريطانية من مذياع قديم وهو يستذكر أيام الدراسة هناك بتفاصيلها ورائحتها.

 


دخلت القهوة في إحدى المرات الشرطة التي تقوم بتعقب أصحاب الكروش الضخمة ، فأسرع وأختبأ في داخله وهو يُغمض عينيه.

 

كوابيس دمويـة

 

كان معذباً بالخوف المنبعث من أعماقه. غـفى يوماً وهو جالس على كرسي مكتبه يضع كلتا يديه على كرشه لحمايته بعد أن ملئه على عجل ببرميل كنتاكي عملاق، فحلم بأرض جافة قاحلة وإنه يسير فيها وقد بلغ منه العطش كل مأخذ. وكلما وجد بئراً كان مسموماً. كانت الحيوانات تنفق والشمس لا ترحم. وأخيراً وصل إلى بئر عذب. وأخذ يلهث بسبب قصره وهو يجذب الحبال الطويلة حتى صعد الدلو والماء يتألق فيه. لكنه ما أن مد فمه ليشرب حتى فوجئ برأس مقطوعة بعيون مسملة تملأ الدلو والماء يتألق فوقها.

 

 

لم يتعرف على الوجه للوهلة الأول. لكنه ظل يصرخ حتى استيقظ . وبعد أن هدأت نفسه قليلاً بدأ يسترجع مراحل الحلم..كان وجه اللص المستخدممروان في الدلو. لم يكف ابداً عن الحلم بمثل هـذه الأحلام الدامية والغامضة منذ أن استبدت به شهوة الانتقام بشكل مستغرب فاق التصور وإلا ما كان ليضحي بلا سبب بهـذا العدد الكبير من الموظفين. كم تغدو الحياة كريهة وأنت تنام وفي فمك دم الآخرين.

 


رأى في المنام ذات ليلة اناس يتطاولون عليه تمكن أن يتعرف على وجوه بعضهم ممن طردهم من المخزن في نوبات الحقـد والكراهية المتكررة. كوّن هؤلاء من أصابعهم حلقة واحدة أخـذت تضغط على عنقه. اقتادوه إلى حيث لا يدري وهو يتأوه يحاول الدفاع عن نفسه بكلمات متقطعة. كان خائفاً. أحس بأنه وحيد يصرخ فلا يسمعه أحد. بلع ريقه في صعوبة ثم هتف بصوت خافت. حاول أن يصرخ، فوجئ بشخص آخر هو الذي يصرخ. كان يحلم. كان الصراخ حقيقة يتناهى إليه من غرفة اللص المستخدم مروان المجاورة لغرفته في البيت. شعر كأنما يقف على حافة الجنون .

 

من يمسك السحاب ؟

دخلت حياته بمحض الصدفة. كان عمره ضعف عمرها.تشبه اللص المستخدم مروان في بعض الأمور. كانت في لحظتها قبل الغروب. تقترب حثيثاً نحو الخريف النهائي. عيونها زرقاء واسعة بحر حقيقي عميق الغور فيه دعوة ملحة للغرق لمن يريد. لم يكن مدير المخزن بالطبع يجيد السباحة بسبب كرشه.فكان أن غرق حتى أعلى أذنيه بقليل.

 


طارت معه بمفردها عبر القارات في رحلات بريدية لتسليم دعوات لحضور حفل افتتاح فرع جديد للمخزن. كان يُوسد رأسه الأشيب على صدرها ويحلم بأنه يُبحر مع ريح مواتية. لكنها سرعان ما انسحبت بهدوء، أو ُطلب منها أو منه ذلك بطريقة ما، تاركة ورائها جسداً مهلهلاً ونفساً خاوية لم تجد العزاء إلا في مضاعفة مخصصات الدخان اليومية. لم يعد الموت في المعشوق مألوفاً في هـذا الزمن.

 

 

لم تكن أذن زوجته صماء لهـذه الدرجة. أتراها كانت تـدرك هـذا من البداية وتتغاضى كونها تعرف حقيقة إمكانياته وقدراته. كان الفراش أحد الميادين التي يُمنى فيها بالهزائم والانتكاسات المتوالية. لا يكفي هنا ما يدعيه لنفسه بأنه رجل لا يُبارى في الفراش. كان بعض رفاقه من المخازن الأخرى يلحون عليه في بعض أيام الثلاثاء أن يقص عليهم قصة غرامه الأبله .

 

 

لحظة صدق

 

أصبح وجه مليء بالتجاعيد المتشابكة كالأرض العطشى وقد تضاعفت آثار السنينعليه، وتحولت إلى تجاعيد غائرة وإلى هذيان ورؤى مؤرقة. وحين لحقه الخرف فقدت تصريحاته مذاقها، ومُسخت أحاديثه فصار يمحي بلدان وقارات من الخارطة حتى أصبح يُلقب بالماحي العجوز.

 


هـذا العجوز المسكين لم يكن يريد الاعتراف أن زمنه قد ولى. لكنه أدرك أخيراً بشكل غامض أن كل ما يمت إليه بصلة مقضي عليه . لم يبقى إلا هـو : وحيد كئيب مثل صبارة عجوز. ينتظر وقع دبيب الموت الذي تأخر قليلاً عن موعده! وهكذا تمر الأيام . والمدير العجوز يتقوس تحت الشمس مثل حبات العنب وهي تتحول إلى زبيب جاف.

 


وعندما حضرته الوفاة انخرط في بكاء عنيف. كان يبكي نفسه. ويُمضي لحظاته الأخيرة ذاهلاً محطماً. كئيباً كما هـو، شاحباً كما لم يكن من قبل. أصبح الناس في نظره متشابهون في الملامح ويحملون نفس الأسماء.

 

كان ينام على الحرير، والموت ينسج مثل عنكبوت دؤوب خيوطه الحريرية حوله .أخذت درجة حرارته ترتفع ويهذي وهـوعلى الفراش يصارع سكرات الموت حتى جاء المساء. مسك يد ابنه الطارق وقال له:إذا مت فلا تندبني والناس يسمعوك لصلاح ديني وعلمي أو قدري، فيكذبك الناس ويلعنوني لسابع جد. ربما كان يدري أن الله سبحانه لعنه قبل أن يلعنه الناس.


تمهل الزمن قليلاً

 

كانت السماء ملبدة بالغيوم لا تحمل وعداً ولا تبعث على السلوى. وكان هناك مطرغزيرفي غير موسمه، وكآبـة غامضة تلف المكان. جـاء الغسالون وحملـوا جـسده بحذر شـديد حتى لا تتهشم أعضاؤه. كان الجسد قد أصبح على درجة من النحول بعد أن فقد الكثير من وزنه نتيجة لأزمات صحية متكررة كجزء من العقاب في الحياة الدنيا. وتلون بالزرقة كأنه قطعة من المحيط البعيد. تمتم الغسال مدهوشاً وهو يصب الماء عليه ويقول لم أر جسداً بهـذه الزرقة.

 


وجاء الناس يحملونه ويمشون به سريعاً إلى القبر بيت الوحدة والدود. وبحث حفار القبور عن مكان لائق في مقبرة على أطراف المدينة فلم يجد إلا تلاً مفرداً عليه صبارة وحيدة تشبه صبار بساتين المزة. سأل زميله عن اتساع الحفرة. فقال له:أحفر متر مو أكتر. كان هـذا كل نصيبه من الأرض. ورأى الناس الجسد المكفن بثوب قصير وهو ينزلق بطيئاً في الهوة الفارغة يغيب في جوف القبر." وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ". نعـم . صدق الله العظيم .

 

 

قال حفار القبور يوماً أن الجثة اختفت من القبر لفترة من الزمن، وعثر عليها لاحقاً في مكان قريب معلقة على غصن شجرة . وإن من قام بهذا العمل، كما دلت تحريات الشرطة، كان أحد الموظفين السابقين في المخزن ممن طردهم المدير العام بعد أن فُتحت شهيته على آخرها للانتقام من الجميع بدافع من الحقد والكراهية. وعنـدما لمسها أحس بها ساخنة كأنما يُـوشك صاحبها أن يُبعـث ويؤتى كتابه من وراء ظهره. قام بإعادتها على عجل إلى قبر آخر قريب من غرفته.

 


ترك مدير المخزن الكبير أخيراً هـذا الكون الواسع الممتد. ما بقي منه سوى قطعة من الأحجار يسمونها شاهد قبر. وأخذ الناس يتخيلونه في القبر وهو يمج بسكون رهيب سيجارته الحمراء الطويلة. تمهل الزمن طويلاً. كانت ميتته قـد تأخرت بعض الشيء. لعل هناك ضعفاً كان كامناً فيه لم يفطن إليه إلا مؤخراً وهـو في القبر..مروان.

 



https://www.facebook.com/you.write.syrianews/?fref=ts



Contact
| إرسال مساهمتك | نموذج الاتصال
[email protected] | © 2022 syria.news All Rights Reserved