ملخص :
يهتدي الصحفي مراد غريب الى طريقة يعود فيها الى الماضي ليلتقي بشخصيات كان لها تأثير في رسم معالم منطقتنا العربية في العصر الحديث ، التقى بداية بجمال باشا المعروف بالسفاح ، والتقى ايضاً بالشريف حسين قائد الثورة العربية ، واختار أن يكون لقاؤه التالي مع واحد من أهم الرجال الذين أعدمهم جمال باشا ، عبد الحميد الزهراوي ..
في الاستانة :
وجدت نفسي على سفينة تمضي بنا في بحر مرمرا كما أخبرني مرافق عرّف عن نفسه باسم (رفيق)، وبقيت السفينة تُبحرُ فيه حوالي العشر ساعات حتى وصلنا إلى آخر جبال آسيا المسمى (قاضي كوي)، ثم دخلنا في مضيق البوسفور الذي يصل البحر الأسود ببحر مرمرة، وتنتشر على جانبيه القصور والأبنية الفخمة، تحيط بها الأشجار الكثيفة الباسقة.
واقتربت السفينة بنا من قصر عظيم مبني من الرخام الأبيض، أُخبرت بأنه قصر (ضولمة بهشة) الشهير الذي كان أحد المقرات الرسمية للسلطان عبد الحميد الثاني. تجاوزناه ورست السفينة قريباً منه في ميناء في منطقة غالطة.
وقادني مرشدي عبر ضجيج المراكب، وزحمة الناس، وجلبة الحمالين، إلى البر، حيث مشينا مسافة 15 دقيقة لنصل إلى جسر خشبي عريض (جسر غالطة) يصل ما بين ضفتي ما يعرف بالقرن الذهبي في الجزء الأوربي من الآستانة.
كان الجسر مزدحماً بالناس والعربات، وتقوم على جانبيه مقاهٍ وأرصفة عائمة ترسوا قربها قوارب صغيرة تُستخدم في نقل الركاب والبضائع.
والناس في الآستانة خليط عجيب بين الغرب والشرق، وكان معظم من رأيتهم في تلك المنطقة يلبسون البدلة "الافرنجي"، والبعض يلبس اللباس الشرقي التقليدي المتمثل بالقميص (الثوب) والرداء، وكلهم بالطبع يضعون على رؤوسهم الطرابيش، والملاحظ بأنه لا يوجد الكثير من النساء في الشارع، والقلة اللواتي لحظتهن، كن يلبسن رداءً طويلاً وغطاءً للرأس، ومنهن من يحمل مظلة وقايةً من أشعة الشمس.
وصلنا إلى الطرف الثاني من القرن الذهبي، ومشينا صعوداً في شوارع ضيقة مرصوفة بالحجارة، واجتزنا ساحة كبيرة يقع فيها جامع الآيا صوفية الذي كان سابقا كنيسة أُنشأت في عهد الامبراطور يوستنياننوس، أحد الأباطرة البيزنطيين، في منتصف القرن السادس ميلادي ، وتُعد أعظم بناء وأبدع مثال للهندسة البيزنطية، ويوجد أيضا جامع السلطان أحمد الضخم الشهير، بالإضافة إلى الكثير من الأبنية والمعالم التي لا مجال لذكرها في هذا السياق.
وصلنا إلى قصر الباب العالي "توب كابه" الذي كان يضم مقر الحكم على مدى تاريخ السلاطين العثمانيين في الآستانة، ومشينا في شارع ضيق بجوار سور القصر، ودخلنا منه إلى شارع متفرع عنه ، بضع خطوات وطرقنا باب أحد البيوت المصنوعة من الخشب، كحال معظم بيوت اسطنبول في ذاك الوقت.
عرفته من فوري عندما فتح الباب بنفسه، رحّب بي بحرارة، ودعاني للدخول، كان البيت فسيحاً مؤلفاً من أربعة طوابق تقريباً، صعدنا على درج عبر الطوابق الثلاث التي كانت تضم غرفاً متعددة لنصل إلى علّية فسيحة تكثر فيها نوافذ ضيقة تطل على القرن الذهبي وبحر مرمرة من جهة، وعلى الحارات الضيقة والبيوت المتلاصقة في تلك المنطقة من المدينة، من جهة اخرى.
جلسنا، وجلت في نظري في أرجاء الغرفة التي كانت مصنوعة من الخشب أيضاً، ولحظت بأن أثاث الغرفة بسيط ليس فيه تكلّف أو زخرفة، بضع مقاعد خشبية وكراس أنيقة موزعة بشكل أنيق، مُد عليها بسط ملونة ووُزعت فوقها وسائد صغيرة مزينة بزخارف شرقية. عُلّق على الجدران أيضا بسط مزخرفة جميلة، ومُدّ على الأرض قطع من السجاد التركي الأنيق، وتوسطت الغرفة مدفأة حطب صغيرة. كان الوقت قد جاوز الظهيرة، وتبدو، خارجاً، السماء صافية مشمسة ليوم ربيعي من أيام آذار في العام 1915.
كان عبد الحميد أفندي (هكذا كان لقب من هو في موقعه) في بداية سن الكهولة، بشرته بيضاء ووجهه طفح سمح، عيناه دائريتان هادئتان فيهما بريق، ووجنتاه واسعتان تعلوهما حمرة خفيفة، ذقنه مستديرة وأنفه مستقيم، له لحية خفيفة متناسقة تزيد من استدارة وجهه، خطّها بعض الشيب، ويلبس الطربوش الملفوف بعمامة عمامة بيضاء على الطراز القديم.
جلسنا على طرفي مقعد قريب من أحد النوافذ ومِلت قليلاً باتجاهه ليصبح قبالتي وبدأت الحديث:
عبد الحميد الزهراوي مواليد العام 1871، مدينة حمص، تعلمت القراءة، والكتابة، والحساب، واللغة التركية في مسقط رأسك، ومن ثم درست فنون اللغة العربية بأقسامها، وكذلك الفقه، والحديث، والتفسير، وحصلت على إجازة في قراءة الحديث وروايته من الشيخ عبد الساتر الأتاسي وقرأت ما يُعرف بالأصول، والكلام، والمعقول عند الشيخ عبد الباقي الأفغاني، وكان نزيلاً في حمص آنذاك..
تنقلت بين الآستانة، ومصر، وحمص، ودمشق، وأصدرت العديد من الصحف وشاركت في تحرير عدد آخر منها خاصة في مصر. انتُخبت عضواً لمجلس المبعوثان العثماني في العام 1908، واليوم أنت عضوا في مجلس الأعيان.
اسمح لي أولاً أن أعرب عن سعادتي بلقائك، أنا من متابعي أعمالك ومهتم بكل الأفكار والطروحات التي تكتبها في جريدة الحضارة، وقبلاً في عدد من الصحف، وأرجو أن أوفق في أن أقدّم شخصك للقراء الذين سيتابعون هذه المقابلة بعد مئة عام من اليوم ..
في البداية ، أشكر الله سبحانه وتعالى الذي وفّقنا فيما وصلنا إليه وجعلنا في موقع نخدم فيه دولتنا وأمتنا، ولا أدخل في الموضوع قبل أن أشكرك على تحمّل مشاق السفر والقدوم هنا لملاقاتي.
لقد صدرت الإرادة السنية (قرار السلطان) بتعييني في مجلس الأعيان في كانون الثاني من العام 1914، ومجلس الأعيان هو جزء من جماعة شورانا الرسمية التي تنقسم إلى مجلس المبعوثان (البرلمان) ومجلس الأعيان، ووظيفته الأساسية العمل على مراقبة أعمال الحكومة، وعدد الأعضاء فيه 50 عضوا.
نعم يوجد فيه 6 أعضاء من العرب، نصف أعضاء المجلس أتراك، ويمثل الباقي العناصر الأخرى للمملكة من أرناؤوط، وجركس، وكرد، وروم، وأرمن، وبلغار، ويهود، بالإضافة الى العرب.
مجلس الأعيان
نعم صحيح، وهو يوازي البرلمان في الدول الغربية، ويبلغ عدد أعضائه 287 عضواً، بينهم 50 عضواً من العرب، 155 عضواً من الأتراك، ويمثل الباقون العناصر الأخرى.
سؤال جيد، نعم يمثل المجلس كل الأديان، فمثلاً في مقابل وجود 231 عضواً مسلماً، فانه يوجد 43 مسيحياً و 4 يهود.
قلت في نفسي: "هذا المجلس أفضل تمثيلاً من مجلس الشعب عندنا اليوم !" واستطردت في السؤال :
كان حتى الآن حاضر البديهة، هادئاً، واثقاً في أجوبته، سريع الكلام، وتتدفق الإجابات على لسانه بدون عناء.
"لا أعرف ماذا تقصد بالمعارضة بالتحديد ، أعتقد بأنك تشير فيما إذا كان هناك مخالفة في الرأي بين أعضاء المجالس، والجواب نعم، واسمح لي هنا أن أوضح بأن الخلاف ليس في حد ذاته مصيبة، المصيبة هي أن نجهل الطرق الجميلة للسلوك حين يوجد اختلاف، وأن نُحرم من الحكمة التي قد تجعل من الخلاف وفاق.
وهكذا أجد أن الخلاف هو من جملة الأمور الطبيعية التي ينتج عنها خير وشر ، مثلاً، مادام للظلم والقسوة وجود، فينبغي أن يكون للعدل والرحمة أيضا وجود، ما دام للإفساد وجود فالحاجة ماسة إلى الإصلاح ، والمصلح مخالف للمفسد .. وهكذا ..
واسمح لي أن أزيد، وإن أطلت في الإجابة، الاختلاف أمر طبيعي، وتعدد الأحزاب هو من طبيعة المجالس النيابية، وأن المجالس التي يكون أعضاؤها كلهم لساناً واحداً، على مبدأ ( ليس في الإمكان أبدع مما كان)، هي بلاد أقرب إلى البلادة والهزل منها إلى النباهة والجد.. "
أحسنت أحسنت ... عجباً، وكأني أرى وجوه أعضاء مجلس الشعب في برلماننا في هذا الكلام ... من هو هذا الرجل؟ سياسي، صحفي، أم فيلسوف! كلامه عميق ومقنع، وهو يتكلم عن أمور إلى اليوم (بعد مئة عام) لم نعرف الطريق إلى تطبيقها.
مجلس المبعوثان
"نعم موجود، وهنا يجب أن نعطي القارئ خلفيّة بسيطة عن سياق وصول العمل السياسي في الدولة العثمانية إلى ما هو عليه"
قلت:
"كان الحكم في الامبراطورية لقرون طويلة حكم فردي استبدادي، وكان آخر عهد هذا الحكم حكم السلطان عبد الحميد الثاني الذي انتهى في تموز من العام 1908 بضغط من رجال الإصلاح في حزب الاتحاد والترقي بإقرار دستور عصري للبلاد يضمن حقوق الناس كما يضمن مشاركة السلطة وتوزيعها بين هيئات الحكم المتشكلة وفقا للدستور.
حاول عبد الحميد أن يرتد على هذا التحول في آذار من العام 1909، ولكن العسكر كانوا له بالمرصاد، وأفشل بعض الضباط الغيورين على العهد الدستوري هذه الحركة الارتجاعية، وحموا الدستور وقاموا بخلع السلطان المستبد عبد الحميد الثاني.
وكان لهذا الحدث وجهان، أحدهما إيجابي والآخر سلبي، أما الإيجابي فهو منْع عودة استبداد عبد الحميد والإبقاء على الحياة الدستورية، واما السلبي فهو إدخال العسكر في العمل السياسي، وسيطرة هؤلاء على سلطات الحزب والدولة، وبدأت مرحلة جديدة يحاول فيها أعضاء من حزب الاتحاد والترقي باستبدال استبداداً فردياً باستبداد جماعي، فكان لا بد من الاختلاف ..."
هذا الكلام ليس جديداً علي... وكم مرة انقلب العسكر لحماية الدستور والبلاد في تاريخنا الحديث، حسني الزعيم، وجمال عبد الناصر، والأسد، والسيسي... كلهم عسكر تدخلوا ليحموا الدستور والحياة السياسية !!
بدا وكأنه يستغرب المصطلحات التي أستخدمُها ويحاول مقاربتها لما كان شائعا في تلك الفترة.
"لا أعرف إذا كانت كلمة انقلاب هنا في محلها، ولكن يمكن أن نقول بأن الضباط تصدوا بأنفسهم للإصلاح، وأنا شخصياً لا أحبذ أن يتدخل الضباط في السياسية لسبب بسيط وهو بأن هذه المهنة (السياسة) لا تناسب روح الوظيفة الواجبة عليهم، وهم في النهاية سيختلفون كأفراد، وعواقب اختلافهم أسوأ من عواقب اختلاف غيرهم من أفراد الأمة المجبولون بالسياسة، في المقابل، إذا تركوا ما دخلوا لأجل حمايته وانسحبوا، فربما استبدوا هؤلاء الذين تركت في ايديهم السلطة، وعليه فإنهم سيحتاجون أن يعودوا إلى القصة ويعيدوها
أعني، ما الذي يمنع الضباط من أن يعملوا اليوم ما عملوه بالأمس، وهكذا تصبح السلطة بيد الأقوى الذي يستطيع الاستيلاء عليها والحفاظ على الحكم، ونعود من حيث بدأنا وكأننا لم نفعل شيئاً".
حتى الآن كنت سعيداً جداً بسماع هذا الكلام الواعي المقنع، وددت لو أقفز في الهواء وأقبله، وأقول له أحسنت .. رائع .. هذا يا سيدي ما حصل بالفعل معنا ويحصل حتى اليوم، وددت لو ألعن أمامه الساعة التي أصبحت فيها السياسة في يد العسكر في بلادنا.
"أريد أن أوضح بأنه بعد أن لعبت جمعية الاتحاد والترقي دوراً سلبيا للغاية في إدارة المملكة، وأجهزت على منافع الأمة، وتذرّعت بصيانة الدستور لتثبيت قواعد الاستبداد وتأييد القانون الأساسي لإبطال الكثير من أحكامه، وغالت في إراقة الدماء البريئة، ومارست الإذلال والتعذيب لمن خالفها الرأي، وأدخلت المملكة في الحروب والفتن، وفرقت بين الشعوب، كان لا سبيل إلى النجاة إلا بتأليف حزب تنتظم فيه سائر الفرق المخالفة (القوى المعارضة) لتكون قوة كبيرة تنتزع الإدارة من يد الاتحاديين وتسلمها إلى من يضطلع بها، ويحسن القيام بشأنها ممن تثق بهم الأمة وتركن اليهم .."
"انا بالطبع لا أقصد أن أتبجح وأفتخر بالحزب الذي شاركت في تأسيسه، وأنا اليوم عضوٌ فيه، ولكن ما قلته كان الأساس النظري للحل لنخرج من حالة استبداد الاتحاديين"
لا على الإطلاق، على العكس، من أسسه هم من أعلام الترك، ففيه (صادق بك) أكبر أبطال الدستور، و(فريد باشا) وهو من الأعيان وأحد أصهر البيت السلطاني، وفيه والي قونية السابق (وفيق بك)، وهؤلاء كلهم من المؤسسين بالإضافة إلى شخصي انا ، وانضم فيما بعد (حسين حسني افندي) شيخ الاسلام السابق. الحزب ليس عربياً أبداً، هو حزب إصلاحي عثماني يعمل لمصلحة الأمة العثمانية.
للحزب هدفان
الأول، مقاومة الاستبداد ولا سيما الاستبداد تحت ستار القانون، الثاني، إصلاح ذات البين بين جميع العناصر."
مرة أخرى، حسبت أنه يتكلم عن واقعنا اليوم، قلت لنفسي: "مئة عام ولم يتغير شيء، ما زلنا بحاجة لنؤسس حزب حرية وائتلاف جديد..."
صمتُّ قليلاً وهذه الأفكار تجول في خاطري، فيما بقي هو ينتظر سؤالي التالي والابتسامة لم تفارق وجهه، ثم بادرني قائلاً:
"أرى أنك أفلست ...هل تريد مساعدة في إيجاد الأسئلة؟. فنحن أصحاب كار واحد". وضحك ضحكة عالية وضحكت معه.
أطرق قليلاً يفكر في سؤالي، ثم رفع رأسه ولازالت عيناه مغمضتين، هز رأسه وكأنه يوافق على الأفكار التي تواردت إلى ذهنه، فتح عينيه ونظر إلي مباشرة وقال:
"صيغة سؤالك، ووضع كل هذه الأمور جنباً إلى جنب في سياقه، جعلاني أفكر قليلاً ولأول مرة، نعم، ربما نحن نمضي في الاتجاه الصحيح، ربما يكون هذا هو الحال، ربما يكون عهداً جديداً يسير إلى حيث نتمنى ونشتهي... ولكن... ولكن، لا أعتقد بأن الصورة وردية كما تصورت!..."
" لماذا؟ لأنه يوجد آثار من الماضي، شديدة الوطأة على حاضرنا، ولا أعرف إذا كان الوقت قد فات لكي نتداركها".
"هذا بحث طويل، وسأحاول أن أوجز لك بعضاً من هذه الآثار التي أثرت في حاضر هذه الدولة وتهدّد وجودها.
منها بالطبع نقص المعارف، وقلة القارئين والكاتبين نسبة للأمم الأخرى، ونقص الثروة، حيث يمكن أن أقول لك بأن كل حياتنا اليوم قائمة على نقود الأجانب، والديون الأجنبية على خزينتنا كثيرة، وإذا أردت أن أتكلم بالأرقام فإن ثلث وارداتنا تذهب إلى الدول الأجنبة كفوائد لديونهم، وهذا يزيد طبعاً من مطامع هذه الدول في مملكتنا..
أخيراً، وعلى رأس ما يهدد المملكة، هي الفتن الداخلية التي تتأتى من كل ما سبق، ومن أثر خطير جداً نعاني منه اليوم يمكن أن أسميه بـ " الأنانية الجنسية".
لا، لا أقصد القومية هنا، وإنما أعني ما هو أعم وأشمل، أعني كل وحدة جامعة بسبب من الأسباب إن كان ديناً، أو لغة، أو منطقة، أو طائفة دينية أو سياسية..
في الحقيقة وجود هذه "الأنانية"، إن جاز التعبير، أو التكتلات، لا يضر في حال عمل أفراد كل جنس على احترام الآخرين، ولكن، ما يضر الدولة ويهدد وجودها، هو الغلو في تبجيل جماعتهم وتنزيل شأن الجماعات الأخرى.
تمهّلَ قليلاً، وبدأت ملامح الارتياح التي كانت في أول اللقاء تتلاشى من معالم وجهه ليبدو أكثر جدية ووجوماً.
"العرب والترك أحد أوجه المشكلة، ولكن إذا تأملنا في العثمانيين اليوم فنراهم ترك، وعرب، وكرد، وأرناؤوط، وبلغار، وصرب، وروم، وأرمن، وسريان، وكلدان، وعبران، ومسلمون سنة، وجعفرية، وباطنية، ونصارى أرثوذكس، وكاثوليك، وبروتستانت ، ويهود... وإذا تجاوزنا الدين والجنس، فتراهم فرقاً محافظين وأحرار، ماسون واشتراكية.
وكل هذا ليس بمشكلة، وهو أمر طبيعي وموجود في كل الدول، ولكن المشكلة هي كيف يكون هذا الوطن العثماني وطناً سياسياً للعثمانيين المسلمين وغير المسلمين منهم، وطن ديني للمسلمين وغير المسلمين. المشكلة هي كيف نصنع وحدة سياسية لأمة تضم كل هذه العلاقات القومية والدينية والوطنية."
لا أعتقد أن هذا الفهم موجود لدى الكثيرين من سكان هذه المناطق كما هو عند هذا الرجل ليس في عصره وليس بعد مئة عام ...لم أستطع أن أخفي إعجابي، وأجزم بأنه قرأ هذا الإعجاب على وجهي، فأنا جئت لأقابل عميد شهداء العرب الذين أعدمهم جمال باشا، وتوقعت أن أسمع كلاماً غير كلام الاتحاد في الدولة العثمانية، توقعت أن أسمع كلاماً عن الاحتلال، عن الاستقلال، عن الانفصال، ولكن هذا الوعي والعمق في وصف وترتيب الدولة، شكل، حقيقةً، مفاجأة كبيرة لي حتى الآن.
ردني من شرودي هذا سؤال وجهه لي الزهراوي:
"أنت، كيف ترى المشكلة؟ هل حقاً هي مشكلة ترك وعرب؟".
ابتسم ابتسامة عريضة وعادت معالم الارتياح إلى وجهه وقال: " أنت محق، لو كنت مكانك لفعلت نفس الشيء، تفضّل كلّي آذان صاغية".
هذا الحديث له شجون، ولكن إذا أردت أن نذهب مباشرة إلى لب الموضوع، أقول لك أن المانع يتجسد في الاستبداد، الاستبداد هو العثرة الرئيسية اليوم، لا أريد أن أعيد وصف حالتنا اليوم، ولكن دولتنا اليوم ليست في أفضل حالاتها، والحرب الكبرى التي تخوضها اليوم، وتعاظم مطامع الدول الغربية، المديونية وتدخل الدول الأخرى في شؤوننا الداخلية، كل هذا أضعف المركز وباتت الأطراف سائبة، منها من انفصل عن الدولة وانضم إلى دولة اخرى، ومنها في طريقه إلى ذلك إذا لم نأتِ بعمل جدّي فاعل يمنع ذلك.
"بداية، يجب أن نعرف بأن الترك والعرب قد امتزجوا امتزاجاً كبيراً مضى عليه أكثر من عشرة قرون، وقد خدم الفريقان الإسلام والمدنية في الإسلام أفضل خدمة، ولأن البعض يحاول تشويه صورة الترك، أريد أن أوضح أن من يعتقد بأن الترك كانوا سبباً في تدني المدنية الإسلامية هو على خطأ، بل على العكس كان الأتراك، دائماً، أقوى عامل للدفاع عنها".
قاطعته ..
هذا ليس صحيحاً، أولاً، الأمم كلها غازية عبر التاريخ، وكل البلاد التي كانت في أيدي غيرنا قبل أن تكون في أيدينا كانت نتيجة الغزو. ثانياً، الأتراك ليسوا غزاة ولا يبرعون إلا بالقتال. دعني أذكر لك بعض الأسماء حتى أثبت لك العكس. كان أكبر محدثي الإسلام صاحب الجامع الصحيح الإمام البخاري تركياً، كان أكبر فيلسوف وطبيب في الإسلام، ابن سينا، تركياً، الزمخشري والفارابي أتراك وغيرهم كثر... وبالتالي اسمح لي أن ؤكد أن القول بأن الترك لم يخدموا المدنية الإسلامية هو كذبٌ محضٌ ..
إذاً؟
"إذاً تنحصر المشكلة في إدارة الدولة. فكما مزجت السياسة بين العرب والترك، كذلك فرقت بينهم السياسة أيضاً، ولم يبقَ من هذا الامتزاج إلا الرابطة العثمانية التي لا تزال تُعد ثمينة عند الترك والعرب معاً.
وأصبحت السياسة اليوم مصدر تهديد لهذه العلاقة أكثر مما كانت عليه في أي وقت مضى، وهي اليوم بيد الترك وكانت كذلك لقرون طويلة، ووصلت بالبلاد إلى ما وصلت إليه من السوء اليوم، لقد تبين بشكل واضح بأنه لا العرب استفادوا من براءتهم من ذنب إضاعة البلاد، ولا نفع الترك تحملهم وحدهم تبعة ذلك العبء الثقيل.
وإذا كنا حريصين على استمرار هذه العلاقة فإنه من الواجب أن يتم إشراك الفريقين بسياسة البلاد، وبديهي ألا تتعارض هذا الاشتراك مع الإخاء بين الجنسين، بل الذي ينافيالإخاء هو عدم الاشتراك، وعليه يجب التشدد، بعد اليوم، في العمل على إنجاز هذه الشراكة."
لم يفكر، وتابع الحديث وكأن الجواب كان في سياق كلامه.
"اللامركزية هي الحل"
"أقصد اللامركزية الإدارية في الولايات العثمانية العربية، والمطالبة بالإصلاح ونقل السلطة إلى السكان المحليين."
توقفت هنا للحظة، والحقيقة أني كنت بحاجة لبعض الوقت لأفهم لماذا يدعم هذا الشخص، الذي كان طوال اللقاء يتكلم وفق منهج محدد يركز على وحدة الدولة العثمانية وقوتها، فكرة مثل الحكم الذاتي أو المركزية، بدا الأمر لي غير منطقي!
"لا سبيل إلا بتطبيق هذا المبدأ للحفاظ على ميزات العرب، ولغتهم، وخصوصيتهم، في مقابل تشدد سياسة الاتحاديين تجاه العناصر الأخرى، يبقى هذا الحل الوحيد."
أردت أن أعيد على مسامعه ترتيب الأمور كما فهمتها، ربما يكون هناك سوء فهم من قبلي.
"أنا لم أقل الانفصال، لست مع هذا الطرح بالمطلق، وكلامك نظرياً صحيح، ولكن في الواقع العملي فإن الاستبداد لم ينتهِ بانتهاء حكم عبد الحميد، وإنما تحوّل من استبداد الفرد إلى استبداد الجماعة كما ذكرت آنفاً، وتحوّل من استبداد مباشر مكشوف إلى استبداد مستتر تحت غطاء القانون والدستور، وأصبح هذا الاستبداد يتسبب في اضطهاد وظلم مكونات كاملة من المجتمع العثماني وعلى رأس هذه المكونات العرب ، الاتحاديين عندما اصطدموا مع المصلحين في اول برلمان منتخب حول اقرار بعض المواد حلوا البرلمان وزوروا الانتخابات التالية ليأتي اعضاء المجلس موالين لهم .."
السلطان محمد الخامس سلطان الدولة في فترة نشاط الزهراوي
جعله هذا السؤال يفكر ويتمهل قليلاً قبل أن يجيب.
" للأمانة، الاستبداد لم يفرق بين ترك وعرب وغيرهم، فقد طال الجميع، ولكن خشية الاتحاديين من انفصال العناصر المكونة للدولة عنها دفعهم للعمل على محاولة طمس هويتها، وبالتالي فإن هذه الأفعال كانت موجهة ضد من يختلف عن الأتراك فقط، وهي توقع الظلم على باقي العناصر دون أن تطال الأفراد الأتراك ذاتهم".
"في كل المناسبات دعونا للإصلاح، ولم تقتصر مطالبنا على مطالب العرب فقط. نحن نريد أن نصلح شأن الدولة بكل مكوناتها وليطال الاصلاح كل العناصر المكونة لها، انظر مثلا في المؤتمر العربي الأول الذي انعقد في باريس، كان تنفيذ الإصلاحات هو أول المطالب، لأنها واجبة وضرورية للمملكة العثمانية".
ولماذا لم تختاروا تسمية له كمؤتمر الاصلاح مثلا؟ لماذا المؤتمر العربي؟ أليس في هذه التسمية نوعاً من العنصرية ودعوة مبطنة للانفصال عن الدولة العثمانية؟
"ليست عنصرية، ولكنها عصبية، وعلى كل أمة أن يكون لديها مثل هذه العصبية للمحافظة على خصوصيتها ومميزاتها منعاً لها من الاندثار".
وبما أنني أعلم في أصول العمل الصحفي، فأنا أعلم بأن علي ألا أجعل المقابلة تحقيقاً وألا أضغط بالأسئلة على الضيف الذي أقابله، ولكن دائماً في مهمتي هذه كنت أشعر بالمسؤولية، وأنه علي أن أعود بأجوبة شافية للقراء والمتابعين، ولم يكن لدي بديلاً عن حشر ضيفي في الزاوية في معظم الاحيان.
"وماذا إذا كانت هذه الجماعات تتعرض للاضطهاد الجماعي، وماذا إذا كان الاتحاديون يسعون إلى تتريك العناصر العربية؟"
ليس جوابا مقنعا يخضع لذات المنطق السليم الذي كان عليه الزهراوي طول اللقاء ، بدا وكأنه يحاول إيجاد الذرائع حول هذه الجزئية، ولمّا كنت لا أريد أن أتحول إلى الضيف في المقابلة، قررت أن أحتال على سياق الحديث بطرح السؤال بطريقة أخرى.
بقي محافظاً على هدوئه، وكان على ما يبدو معتاداً على المناظرة، ولكن كان واضحاً بأن نبرته تحولت إلى نبرة دفاعية بعدما كانت على طول اللقاء سردية يعرض الوقائع من خلالها بشكل مريح. لم يبدُ لي مرتاحاً كثيراً في هذا الجزء من اللقاء.
"هم أصلا كذلك! هم جماعات كما ذكرت ولهم تمثيل، سأعطيك مثالاً، بالفعل ينتظم الروم والارمن في جماعات ، فالروم كلهم جماعة واحدة يرأسها البطرك ضمن مجلسين روحاني وجسماني، وكذلك الأرمن الذين تحولوا اليوم آلة في يد روسيا، ولكليهما جمعيات منظمة مرتبة وغنية، وليس للعرب مثل ذلك إلا بعض الجماعات المتفرقة في مصر وبيروت".
"إذا كانت كل جماعة تعمل لتحقيق مصالحها، لا يجوز لنا نحن العرب أن نبقى هكذا بدون تمثيل، لا يصح إلا أن نكون جماعة نحن أيضا للحفاظ على حقوقنا وخصوصيتنا".
ما زلت لا أفهم التناقض بين خطابه الجامع للعناصر تحت لواء الدولة العثمانية، وبين أفكاره هذه التي تميل للتجزئة. كيف يمكن لهذا الطريق الذي تعمل فيه كل جماعة لمصالحها وخصوصيتها ألا يؤدي إلى تفكك الدولة، فيما العمل لجهة أن يتمتع الفرد بحريته وحقوقه في ظل القانون يضمن في النهاية مصالح الجماعة بكل تأكيد.
ردني مرة أخرى صوته من شرودي.
"لم يقنعك كلامي أليس كذلك؟"
ابتسمت ..
"تفضل"
أطرق قليلاً وهمّ يريد الإجابة، توقف ثم عاد ليستوضح
الأتراك والعرب العثمانيون، لهم اليوم دولة عريقة، جيش، ومؤسسات، وحكومة، وبرلمان فيه للعرب تمثيل جيد، لديهم تاريخ أنت قلت بأنه يمتد إلى عشرة قرون تمازجوا فيها مع الترك ومروا بأطوار مختلفة واستقروا على الدولة العثمانية منذ اربعة قرون، هل هناك من روابط تجمع العرب منفردين أكثر وأقوى من روابطهم مع الدولة العثمانية؟.
"صحيح أن العرب يختلفون وينقسمون من حيث الدين، والمذهب، والتوجه السياسي والاجتماعي، إلا أنه يوجد روابط قوية تربطهم، وبعد البحث والتدقيق وجدت في أنهم يشتركون اليوم في خمس سمات أساسية.
هي كالتالي بحسب ما وجدتها ورتبتها أنا: التنبّه بعد السبات الطويل، استحسان التعارف والتعاطف بعد القطيعة الطويلة، الحرص على تأييد اللسان (اللغة العربية)، الحرص بأن يكون كيانهم محترماً، وأخيراً أن يكون وجودهم من حيث العلوم والأعمال الصالحة للحياة بصورة تسر أولياءهم في هذه الدنيا وتكبت أعداءهم."
كنت اكتب وراءه هذه السمات الخمسة حرفيا لأني اعتقدت بأنها هامة ومفحمة ، ولكن وقعت على مسامعي مع الأسف وكأنها (صف كلام) لا أكثر، التنبه، والاستحسان، والحرص، ما هذه الروابط التي يمكن أن نبني عليها موقفاً واتجاهاً سياسياً قد يهدم الدولة التي نعيش في كنفها منذ 4 قرون؟!.
ولم أجد بداً من أن أعيد مراجعتها في حضرته أكثر من مرة. كانت غير مفهومة بالنسبة لي، والأهم لا يبدو لي أنها تشكل أي روابط قوية يمكن أن تقوم عليها أمة وتستقل ذاتياً داخل الدولة.
لا ادري لماذا أحسست بأنه غير مقتنع بهذا الكلام، فالرجل مفكر وعميق وهذا الكلام عام وهلامي (منفلش) (في رأيي على الأقل) لا يصلح لكي يضم أمة ويعزلها عن محيطها الذي ترتبط به بكثير من الروابط القوية.
ولما طال الوقت الذي كنت أحاول أن أفهم فيه هذه النقاط الخمسة لأتابع اللقاء، خرجنا قليلاً من جو المقابلة (الرسمية) فيما يشبه الاستراحة، ونهض هو بنفسه وأعد لنا فنجانين من الشاي على الطريقة التركية (خمير وفطير)، وحاولت أن أستفهم منه حول تلك النقاط في دردشة جانبية، لم أصل من خلالها إلى نتيجة، وقلت لنفسي: "إما هذا الرجل يمثل تيار سياسي محدد من خلال ارتباطه بحزب اللامركزية ويتكلم بلسانه أو أنه من الصعوبة أن أفهم تماما ما يرمي إليه وأنا بعيد عما يعيشه هو، حيث يعلم مالا أعلم".
واستأذنته بأن نستأنف اللقاء.
"كلامك صحيح ، ولكن الاتحاديين لم يتركوا لنا نحن العرب مجالاً لكي نلعب دوراً أكبر، على العكس، هم يحاولون تتريك عنصرنا، وإلغاء خصوصيتنا، وتفريق شملنا، ولا نجد أمام هذه الأفعال إلّا أن ننكمش ونتعاضد ونطالب بحقوقنا، وأضعف الإيمان هو أن يتركوا لنا مجال حكم أنفسنا بأنفسنا من خلال لامركزية إدارية".
ابتسم ابتسامة فيها سخرية وحسرة، وتنهّد تنهيدة طويلة وقال لي:
"هنا تكمن المشكلة، من سيقود العرب. الحقيقة بأن العرب اليوم ليسوا في أحسن أحوالهم، وأنا قسّمتهم إلى ثلاثة أقسام:
أولاً التجار، وهؤلاء لا يفهمون لا في العير ولا في النفير من جهة السياسة، وثانياً هناك الطلاب والخرّيجون الجدد من الشباب المتعلم، وهؤلاء ناشئة لا يليقون بالسياسة ولا تليق بهم، والقسم الأخير هم المأمورون، ومنهم الضباط، وهؤلاء لا تجربة لهم في هذه المسالك، والأفضل عدم دخولهم فيها، وأما المأمورون أصحاب المناصب فلا همّ لهم إلا حفظ المنصب، وأخيرا يمكن أن نشير إلى طلاب المناصب وهؤلاء جياع مساكين لا يفهمون من السياسة إلا المنافع وتحقيق مصالحهم الخاصة".
قاطعته..
"أنا هنا لي رأي لا أعتقد بأنه سيكون موضع ترحيبك في هذا الخصوص. أنت قلت أنك من الشام، وأنا أعرف أهل الشام جيداً، ومع الأسف فإن أهل سوريا والعراق أيضا من العرب حضرٌ ألفوا الذلّ وتعوّدوا الاستجداء والاستكانة، لا يفهمون ولا يريدون أن يفهموا، لا يساعدون ولا ينوون أن يساعدوا، لا يهبون ولا يروق لهم أن يوقَظوا".
قلت في نفسي: " يا ساتر، لماذا كل هذا التحامل على أهل سوريا". تابع:
"ويبقى من العرب أهل الجزيرة الخلص، أهل اليمن، وعسير، والحجاز، ونجد، وحضرموت، فهم الأهل وفيهم الخير، ولن يقوم أي تغيير إلا بسواعدهم".
"ذاك نابع من متابعة سيرتهم وتعاطيهم مع قضية الحفاظ على حقوقهم، فهم لا يتركون حقاً لهم حتى ولو كان المعتدي الدولة العثمانية ذاتها".
عدت لأصمت قليلاً وأفكر بسرعة. في هذه اللحظة بدأت أشك في نوايا الرجل، فهو يشير إلى عرب الجزيرة الذين كانوا في تلك الفترة يقومون بالثورات والحركات في اليمن، ونجد، ومناطق أخرى للتخلص من التبعية للعثمانيين، فيما لم تنشأ أي حركة مماثلة في بلاد الشام، وإذا كان يرى الخير في مثل أفعال أهل الجزيرة لا شك بأنه ميّال إلى الانفصال . وقررت أن أباغته بسؤالي عن هذه الجزئية بالتحديد:
ابتسم وكأنه كان يتوقع سؤالي.
"لا، أنا شخصياً لست مع الانفصال، وقد قلت في عدة مناسبات وكتبت أكثر من مقال حول هذا الموضوع، أنا أرى بأن الحكم اللامركزي الإداري هو وطن صغير، والأوطان الصغيرة هذه مرتبطة بسلطنة، هي الوطن الكبير، وإذا كان هذا الوطن الكبير عامراً فالعمران نجده في الأوطان الصغيرة، وأما إذا كان خراباً فلن تجدوا لتلك الاوطان عماراً!"
نعم كلام جميل ومنطقي ولكن لا زلت لا أفهم كيف يمكن أن يتحقق على أرض الواقع.
صمت وبدا أنه يفكر بشكل عميق، وقطب جبينه قليلاً وأطرق ثم زفر زفرة طويلة ونظر إلي وقد تسرب بعض القلق ليظهر على معالم وجهه.
"ربما، الله أعلم ما في النفوس، ولكني لست ساذجاً لكي يكون عندي يقين بأن كل العرب وبالأخص أعضاء الأحزاب العربية تفكر كما أفكر أنا، أنا أعمل جاهداً مع الطرفين، أعمل مع العرب لكي تكون مطالبهم أكثر اعتدالاً، حيث يمكن للإدارة العثمانية التعامل معها وتنفيذها، وأعمل مع الحكومة لكي تنفّذ هذه الطلبات. طريق وحيد للحفاظ على الدولة ومنعها من الانهيار".
هكذا إذاً، بدأت الصورة تتوضح لي، بدأت أفهم لماذا يتمسك بقصة اللامركزية، هي الحد الأدنى من مطالب الأحزاب العربية، لا يهم قناعاته في هذا السياق!، نعم هو رجل سياسة يحاول تحقيق الممكن، والممكن، على ما يبدو، هو حل وسط بين الاستقلال والمركزية، ولا يوجد إلا اللامركزية... نعم، أخيرا هذا منطقي.
تردد قليلاً في الإجابة ثم قال:
"على اعتبار بأن هذا اللقاء سيُنشر بعد مئة عام، فأنا حريص على أن يعرف القراء الحقيقة، صحيح أنني لست عضواً في هذا الحزب، ولكن أعترف بأني أعمل بالتنسيق الكامل معه، وأسعى لتحقيق ما هو ممكن من أهدافه بما لا يتعارض مع مصالح الدولة العثمانية ".
الخطر موجود، وأنا أعتقد بأنهم يعلمون، ولا أعرف متى سيُستخدم هذا ضدي. العمل لحكم ذاتي عربي بطبيعة الحال عمل خطر وهو عمل في مواجهة أقوى حزب تركي قابض على السلطة: حزب الاتحاد والترقي.
"لست مضطراً، أنا اخترت أن ألعب دوراً توافقياً بين الاثنين. لو تركت الاثنين يعملان بدوني لن تتغير مواقفهما ولن نستطيع منع الكارثة، على أحدهم أن يعمل ليخفض سقف مطالب العرب، وفي نفس الوقت يشتغل مع الاتحاديين لقبولها. لا يوجد حل آخر إلا انهيار الدولة كما أرى".
"نعم، حال العرب كما وصفتها لك ليست في أحسن أحوالها، وأنت محق في مخاوفك، ويبقى الأمل بأن يكون لدى الأحزاب العربية التي تعمل لأجل هذه الغاية القدرة على إجراء هذا التحوّل، أنا لا أنكر بأنها مغامرة، ومغامرة خطرة أيضاً، ولكن في النهاية لست أنا من أقرر إلى ما ستنتهي!".
ابتسم ابتسامة عريضة ماكرة وقال لي:
"ربما تكون هذه مهمتك القادمة، عليك أنت أن تبحث وتعرف".
ابتسمت بدوري وأطرقت قليلاً أفتش عن ما بقي في جعبتي من أسئلة.
"قولاً واحداً ... الاستبداد".
نعم، وقبله استبداد عبد الحميد الثاني.
شكرته على وقته وسعة صدره، وعلى لطفه وحسن استقباله، وجرت بيننا دردشة قصيرة قبل أن أغادر علمت خلالها بأنه بالفعل يعلم بأنه في خطر، وبأنه تمت دعوته للمثول أمام الديوان العرفي في عالية في لبنان، الديوان الذي، فيما بعد، أصدر أحكامه عليه وعلى رفاقه بالإعدام. كنت أعلم، ولم يكن مسموحاً لي في قواعد اللعبة، أن أقول ما أنا به عالم. لم يكن مسموحاً أن أغير التاريخ.
وهكذا، ودعته وأنا أعلم بأنه ذاهب إلى حتفه. ودّعته ومشيت بخطوات متسارعة، ولا أستطيع أن أقول، إلا أني في تلك اللحظة كنت أشعر بحزن عميق.
مراد غريب اثناء زيارة له لمجلس المبعوثان
بقلم نضال معلوف
http://www.facebook.com/nedal.malouf
تابع تفاصيل مثيرة اخرى حول اللقاء على صفحة #نبش_القبور على فيس بوك
http://www.facebook.com/BygoneInterviews