يهتدي الصحفي مراد غريب الى طريقة يعود فيها الى الماضي ليلتقي بشخصيات كان لها تأثير في رسم معالم منطقتنا العربية في العصر الحديث ، التقى بداية بجمال باشا المعروف بالسفاح ، والتقى ايضاً بالشريف حسين قائد الثورة العربية ، وكان اخر لقاء له مع عبد الحميد الزهراوي أهم الرجال الذين أعدمهم جمال باشا، وفي اللقاء الاخير رأى الزهراوي بان احد اهم اسباب ثورة العرب على الدولة العثمانية ومطالبة الشعوب المنضوية تحت حكم الدولة العثمانية بالحكم الذاتي او انفصال كان وراءه استبداد عبد الحميد الثاني ..
وهكذا سعى مراد للقاء السلطان ، فشل في اول محاولة وتكللت محاولته الثانية بالنجاح
في وقت مبكر يوم 15 كانون الأول عام 1917 وجدت نفسي على شاطئ البوسفور في الجانب الأوربي من اسطنبول، ينتظرني مركب يطلق عليه اسم "القايق" وهو مركب خشبي طويل فيه حوالي 20 مجدفاً يتولون الإبحار فيه، جلست أنا ومرافقي "مصطفى" - الذي عرف عن نفسه بأنه أحد مرافقي السلطان ـ في نهاية الزورق، تحت خيمة رُفعت على عواميد خشبية.
كانت الخيمة متسعة وفيها مقاعد خشبية على جانبيها مغطاة بالسجاد وفي وسطها مائدة كبيرة عليها صحون طعام من فاكهة ومقبلات ومياه وعصائر وبعض اللحومات الباردة، كما شاهدت في ركن من أركانها الشيشة (الأركيلة أو النرجيلة) وبجانبها بعض الآلات الموسيقية مثل الدف والبزق والطبلة .. وعلمت من مصطفى بأن هذه المراكب تستخدم بشكل دائم للنزهة (السيران) في البوسوفور في أيام العطل وفي ليالي الصيف المقمرة أيضاً من قبل كثير من أهالي المدينة ..
دعاني مصطفى لتناول الطعام، فاعتذرت لأني لم أكن بعد في حالة من الاستراخاء تسمح لي بتناول الطعام، فقدم لي كأساً من الشاي الساخن، ولما لاحظ بأني أشعر بالبرد قليلاً زودني بغطاء من الصوف الناعم وضعته على رأسي والتحفت به اتقاءً من هواء بارد كان يتسرب من أطراف الخيمة والقارب يسير بنا إلى الطرف الآسيوي من المدينة ..
اقتربنا من قصر عرفت أنه قصر "بيلار بيه" أو كما كان يعرف وقتها "بكلر بكي" ، وهو القصر الذي يقيم فيه ( اجباريا ) السلطان عبد الحميد في ذاك الوقت، بعدما تم خلعه من قبل الاتحاديين ( جمعية الاتحاد والترقي ) وتنصيب اخاه محمد رشاد ( الخامس ) خلفا له في العام 1909.
كان كامل القصر الذي يأخذ هيئة العمارة الغربية مكسياً بالرخام الأبيض المنحوت على شكل عواميد مزدوجة تعلوها تيجان، وتأخذ نوافذه وأبوابه المرتفعة شكل القناطر، ويعلو سطحه سياج رخامي عال مفرغ متشابك.
وصلنا إلى الباب الرئيس المطل مباشرة على البوسفور وقد وقف جنديان من حرس السلطان مد أحدهما جسراً خشبياً وصل بين القارب والدرج المتصل بالمدخل الضخم الذي يبلغ ارتفاعه حوالي أربعة أمتار وعلى سطحه وضع شعار مذهّب كبير للدولة العثمانية.
اجتزنا باب المدخل ولم يكن يبعد كثيراً عن المدخل الرئيس وهذا يرتفع حوالي 20 درجة عن سطح البوسفور، فيما اصطف بعض الجنود في الحديقة، وتقدمنا جنديان منهما حتى وصلنا إلى مدخل القصر الرئيس ولفت نظري على جانبي المدخل تمثالان لأسدين من الرخام.
باب القصر خشبي هائل مرتفع إلى السقف شده حارسان بعزم حتى فتح عن آخره، ودعاني مصطفى لكي أتقدمه إلى داخل القصر الذي لا يمكنك وأنت تعبر بابه وتنظر إلى فضائه إلا أن تشعر بالرهبة والخشوع.
أثاث أنيق فخم، أرضيات مفروشة بالحصير المصري وضع فوقه قطع السجاد من نوع "هركه" وهو سجاد خاص يصنع في مصنع أُنشيء في عهد عبد الحميد واستعان بالخبرات الفرنسية في الجاكار والعمالة الماهرة من مناطق متعددة من تركيا حتى وصل إلى العالمية.
وفي كل أركان القصر يمكن أن تلاحظ الأواني الخزفية والثريات المصنوعة من الكريستال البوهيمي بالإضافة إلى الساعات السويسرية المعلقة على الجدران في كل مكان.
دخلنا إلى صالون كبير يبدو أنه قاعة الاستقبال الرئيسة يتوسطه بحرة كبيرة وعلى أطرافها أوانٍ خزفية ضخمة وفي صدرها غرفة جلوس مفروشة بالعديد من الكراسي والكنب متعددة الأحجام لها مساند عالية، ومشغولة من الخشب المحفور المزخرف بخطوط من الذهب، ومنجد بالقماش المقصب وبدا لي وكأنه البروكار الدمشقي.
نظرت إلى صدر القاعة .. لا بد أنه هو وبدأ قلبي يخفق بشدة وأسناني تصطك في فمي، نعم إنه هو السلطان عبد الحميد الثاني .. جالس في صدر الغرفة الفسيحة على طرف أريكة كبيرة.
تقدمت باتجاهه يسبقني مصطفى ووقفت بعيداً عنه بحوالي مترين وانحنيت له محيياً، حياني بدوره بأن حرّك رأسه قليلاً إلى الأسفل وأشار إلي بالجلوس إلى كرسي قريب على يساره فجلست.
ورحت أتأمله عن قرب، كان متوسط القامة، محدب الأنف. وعيناه شهلاوان وأحاطت بهما عدة حلقات من التجاعيد، حاجباه ليسا كثيفين وجبينه عريض وعال، لون بشرته بيضاء، ويداه متوسطتا الحجم متناسقتان.
لباسه بسيط ليس فيه تكلف، وهو عبارة عن رداء ومعطف أسود ويضع ربطة عنق من نفس اللون، ويلبس في قدميه حذاء من الجلد طويل الساق، ويعتمر طربوشاً خمرياً داكن اللون.
سند إحدى يديه على عصا مصنوعة من خشب أصفر أملس، وفي اليد الأخرى سبحة مصنوعة من العقيق وكان يلبس خاتماً من الذهب له حجر اعتقد أنه من العقيق الأبيض، ويضع دبوساً على صدره من البلاتين.
حاولت أن أتماسك وأن أسيطر على حالة الانبهار والتوتر التي تملكتني، لقد كان جلوسي إلى جانب السلطان في هذا القصر فيه سحر غريب بحيث إنه من الصعب أن يتجاهله الإنسان وينجح في ألا يتأثر فيه.
بسرعة حاولت أن أتمالك نفسي رحت أذكّر نفسي بأنّ ما جئت من أجله هو مواجهة السلطان عبد الحميد باتهامات هؤلاء الذين خلفوه بالحكم واتهموه بالاستبداد، أليس هذا ما أشار إليه الزهراوي في لقائي معه على سبيل المثال، وهذا ما عرف عن السلطان وما يتبع هذه الصفة من صفات مرتبطة بها .. عدو للعلم، نرجسي، دموي قاتل ..
كان لا بد لي أن أواجهه، من أن أقول له: أنت السبب .. كل ما نقاسيه اليوم بسبب استبدادك أنت .. !؟
هل سينكر ماذا سيقول .. هل سيعترف؟ أسئلة راحت تعصف في ذهني وكل هذا حدث في ثوان قليلة زادت من ارتباكي وتوتري، فيما كنت غير واثق من أني أمتلك الجرأة لكي أطرح مثل هذه الأسئلة عليه، ولست متأكداً إذا كان سيجيب عليها أصلاً ..
فضلت أن أبدأ بأسئلة تمهيدية تتعلق بالدولة التي كانت وقتها في حالة من السوء لم يسبق أن وصلت إلى مثله، فقد خسرت أجزاء واسعة من أراضيها وتقدم الجيش الإنكليزي في فلسطين واحتل القدس وقام الشريف حسين بـ"بثورته" وتمكنت المجاعة والمرض من الفتك بعشرات آلاف السكان في مختلف أنحاء الامبراطورية المتداعية .. لقد كانت الدولة العثمانية تلفظ أنفاسها الأخيرة ..
بعد أن شكرته مرة أخرى على حسن استقباله وأبديت سعادتي وامتناني على إعطائي هذه الفرصة، بدأت في طرح أسئلتي ..
"أرحب بك، وسررت بأنك تحملت مشاق السفر ووصلت إلى هنا في مثل هذه الظروف الصعبة والخطرة، وآمل أن تحمل معك ما جئت تسعى إليه من إجابات شافية على أسئلتك..
نعم اليوم الإمبراطورية في خطر ولا أحد يعلم كيف ستنتهي هذه الحرب الطاحنة القاسية، الحرب التي لم يكن من الحكمة أن نكون طرفاً فيها، وأنا بشكل عام حاولت جاهداً خلال فترة حكمي أن أبتعد عن الحروب إذ طالما آمنت بأن الحرب أكبر آفة تصيب الأمم، حتى المنتصرون فيها يرهقون أممهم بها، فكيف الحال مع مثل هذه الحرب التي تدور رحاها بين دول عظيمة كبرى يمكن أن تأخذ في طريقها الكثير من الشعوب والدول .."
كان صوته جهورياً واضحاً ويتكلم بهدوء ورصانة ورغم ظهور علامات تقدم السن عليه إلا أنه كان يبدو متماسكاً قوياً ينظر مباشرة في عيني ولكن نظراته لم تكن حادة كما كنت أتوقع، بل أحسست بأن فيها الكثير من الود والعطف وكأنه يكلم أحد أبنائه ..
"هي قصة طويلة، ولكن يجب أن تعلم أنه لم يكن لي أي دور في هذا فأنا كما قلت لك ضد الحروب بشكل عام وضد دخول هذه الحرب بشكل خاص، اعتبر دخولها فوت علينا فرصة إضعاف خصومنا وإعادة تقدمنا إلى الموقع الذي كنا دائماً فيه في طليعة الدول القوية.
إذا عدنا إلى البداية عندما استلمت الحكم ولم أكن قد تمكنت وقتها من السيطرة على توجيه الدفة فيما يخص معظم شؤون الدولة، وتحت الحاح بعض رجالات الدولة الأقوياء مثل مدحت باشا أعلنت بدء الحياة الدستورية والديموقراطية في الإمبراطورية العثمانية وسلمت ممثلي الأمة زمام القرار ماذا كانت النتيجة .. ؟" ..
"كان أول قرار اتخذه مجلس المبعوثان (البرلمان) وقتها دخول الحرب مع روسيا، وهكذا اختار ممثلو الشعب الحرب، وفقدنا نتيجة هذه الحرب مساحات واسعة من أراضينا في أوروبا ما اضطرني لتعليق العمل بالمشروطية (الدستور) وقتها..
واليوم بعد تطبيق المشروطية الثانية (أي تطبيق الدستور للمرة الثانية) قرر من يمتلك القرار دخول الحرب مرة أخرى، حرب كبيرة عظمى .. وها هي الدولة العثمانية تنهار نتيجة هذا القرار .."
هو يتكلم بداية عن الحرب الروسية التركية التي حدثت في العام 1877، حيث دخلت روسيا الحرب وقتها دعماً للصرب الذين خسروا حربهم مع العثمانيين واستنجدوا بالروس، فأنذر الروس الدولة العثمانية لتوقف تقدمها وتنسحب من الأراضي الصربية التي كسبتها، وكان مدحت باشا الشخصية المعروفة (عُيّن فيما بعد والٍ للشام ويوجد سوق باسمه) له نفوذ كبير في تلك الفترة، فترة خلع سلطانين متتاليين هما عبد العزيز ومراد قبيل استلام عبد الحميد الثاني - السلطان الشاب - للحكم، وبإصرار مدحت باشا وبعض رجالات الدولة الأقوياء وافق عبد الحميد على إصدار دستور للبلاد يعطي صلاحيات واسعة للبرلمان وللحكومة.
تزامن هذا كله مع الحرب الصربية ومع الإنذار الروسي، وقرر البرلمان والحكومة وقتها تجاهله ودخول الحرب ضد روسيا، وهذه كانت المرة الأولى التي تكلم عنها السلطان، والمرة الثانية التي يشير إليها هي انقلاب جمعية الاتحاد والترقي على السلطان نفسه واستلامهم الحكم واتخاذ القرار بدخول الحرب العالمية الاولى حليفاً لألمانيا.
"لا يمكن التكلم على مثل هذه المفاهيم هكذا بالمطلق .. الديموقراطية .. لا .. ليست شر مطلق، وقد تكون دواءً نافعاً ولكن ليس لكل الأجسام، لا يمكن إعطاء حرية كاملة لشعب دون تأنٍ وإعداد ..
في حالتنا الراهنة وكما أعلم احوال رعيتي ودولتي.. نعم.. طالما اعتقدت فيما مضى بأن الحكم الدستوري غير مفيد .. واليوم بعد كل الذي حدث أنا مقتنع تماماً بضرر الديموقراطية لدولتنا في وضعها الراهن..
يجب أن تصل الأمة إلى الرشد والسداد المطلوب لتسطيع اتخاذ قرار بالحكم حسب أصول الديموقراطية .. ونحن لم نصل بعد إلى الرشد.. بهذا الخصوص .."
توقف هو عن الكلام، وصمتُ أنا قليلاً افكر فيما قال، قلت لنفسي هذا كلام كل المستبدين، الشعب لا يستحق الحرية، غير مؤهل.. إلى ما هنالك من هذ الكلام الذي حفظناه عن ظهر قلب خلال العقود الطويلة الماضية ..
"كما قلت لك هي ليست شراً مطلقاً ولا دواءً نافعاً لكل مرض، نحن مختلفون عن هذه الدول على الأقل في وضعنا الراهن، الدولة العثمانية دولة تقوم على العنصر التركي وتجمع بالإضافة لهم رعايا من قوميات وأعراق وطوائف شتى، والمشروطية (النظام الدستوري الديموقراطي) في دولة كهذه تعني موت العنصر الأصلي الحامل للدولة وبالتالي تفتتها بشكل تلقائي..
على سبيل المثال هل تجد في البرلمان الإنجليزي نائباً هندياً واحداً، أو إفريقياً أو مصرياً؟، وهل في البرلمان الفرنسي نائب جزائري واحد؟ هم يطالبون بوجود نواب من الروم والأرمن والبلغار والصرب والعرب في البرلمان العثماني، ماذا نتوقع من هؤلاء النواب أن يعملوا غير السعي لانفصال جماعتهم عن الدولة بحجة الحقوق والديموقراطية .؟"
وهو يحاول هنا أن يضع نفسه بمقارنة مع الدول العظمى والإمبراطوريات التي كانت تسعى بشكل حثيث للتمدد وضم الدول والشعوب إليها، كان كلامه مباشراً وصادماً .. ولا أستطيع الجزم فيما إذا كان صحيحاً، (وماذا سيفعل هؤلاء سوى السعي للانفصال) أليس هذا ما حدث بالفعل ..؟! لا ننفصل عن بعضنا بعضاً حتى هذا اليوم .. ! ولكن هل الحل هو في استمرار الاستبداد والحكم والمطلق..
في المقابل رحت أفكر قبل أن أطرح سؤالي التالي، هل يجوز لسلطان البلاد أن يتكلم هكذا.. إنه يتكلم بعنصرية ويقسّم شعبه إلى طبقات، عنصر أساس ورعايا وليس للرعايا حق التمثيل!.. لا أدري ربما تكلم كسلطان فاتح كأجداده الفاتحين، ككل الملوك والأباطرة الذين اعتمدوا على الغزو والتوسع .. ربما ..!
لم أستطع تقبل هذا المنطق .. هل يمكن أن تكون هذه العقلية التي يتكلم بمنطقها وقد عفا عليها الزمن هي السبب الرئيس وراء سقوط الدولة .. سألت نفسي ..
"حقيقةً هذا ليس متعلق بنظرتي أنا للأمور، إنه واقع الحال الذي استلمت الحكم على أساسه، أجدادي السلاطين قاموا بضم شعوب وبلدان كثيرة إلى الدولة وهكذا كان الأمر مع أسلافهم في الدولة العثمانية من ملوك وخلفاء. وحتى في باقي الدول والإمبراطوريات غير الإسلامية، ومن يدخل في حمى دولتنا يكون من الرعايا وهم أجناس وقوميات وأديان متعددة هذا هو نظام الدولة الإسلامية وليس نظامي أنا .. وإذا جعلنا هذا النظام خليطاً مع نظام الدول الغربية سنقوض أسس بقاء الدولة.."
ربما كان هذا صحيحاً في الماضي .. ولكن هل تستوي هذه الطريقة في التفكير مع ما كان يشهده العالم من ثورات في القرن التاسع عشر، إذا كان هذا الكلام صالحاً فيما قبل فهل يصلح للحكم اليوم .. تابعت السؤال..
نعم يمكن وهذا يستلزم الكثير من الإعداد والوقت ..
لم تمهلني تطورات الأحداث المتلاحقة والخطيرة بأن أفعل ذلك ..
توقف قليلاً وما زال ينظر في عيني بكثير من الود والعطف، لا شك أنه أحس بأن في سؤالي اتهاماً له .. واعترف بأنه بنظرة واحدة أنبني على هذا الاتهام رغم أنه بدا أنه تقبله بصدر رحب..
"نظرياً نعم هو وقت كاف .. ولكن .. أنا لم أستلم دولة مستقرة قوية يمكن أن تتفرغ للبناء وتعزيز الروابط بين رعايها .. لقد استلمتها والدول الغربية قد أخذت القرار بتقسيم دولتنا ومررنا بالحرب تلو الحرب والأزمة تلو الأزمة، لا يمكن إنجاز تغيير كبير مثل هذا التغيير في وقت قصير نسبياً، ومثل هذا التغيير يستلزم ظروفاً مستقرة ووقتاً طويلاً قد يستمر أجيالاً..
ولا تنسى بأن أسس الدولة الإسلامية مختلف عن الدول الديموقراطية وهذه الدولة الممتدة منذ أكثر من ألف عام (الإسلامية) لا يمكن أن تحولها لدولة ديموقراطية إلا عبر أجيال وهذا يستلزم الكثير من العمل والإعداد.."
قاطعته وسألته
ككل اللقاءات وأنا أطرح مثل هذه الأسئلة التي قد تبدو عادية في زماننا، كنت أفكر هل من الممكن أن تطرح على سلطان، وهل السلطان أصلاً يجري لقاءات صحفية؟!، كنت أطرحها بحذر وأترقب ردود الأفعال ..
لم تتغير تعابير وجهه ولم يخرج عن هدوئه ووقاره .. وكأنه سمع شيئاً ليس جديداً عليه ..
"نعم أعلم بأنهم حاولوا تشويه صورتي كثيراً .. وأقول لمن يريد أن يلصق بي هذه الصفة، يجب عليه أن يقدم الدليل، على العكس تماماً لقد بحثت طوال عمري عن الإنسان العاقل المتعلم وكنت أعرف كم هو نادر أن أجد مثله، لذلك قمت بإنشاء آلاف المدارس وفتحت الجامعات.
أذكّر هؤلاء الذين يكيلون الاتهامات لي، أنه عندما أمرت بتدريس الفلسفة في كلية العلوم السياسية تمرد الطلاب وقالوا (يريدون أن يجعلونا كفاراً) .. ولكني كنت أعرف أن الكفر ليس في العلم ولكنه في الجهل"
توقف قليلاً وعاد للكلام وكأنه يحدث نفسه ..
"الغريب أن هؤلاء الذين يطلقون علي هذه الألقاب ويحملون لي كل هذا العداء درسوا في المدارس التي افتتحتها أنا. أنا لم أخشَ مطلقاً في يوم من الأيام من رجل متعلم، وإنما تجنبت الحمقى الذين يعتبرون أنفسهم علماء بعد قراءة بضعة كتب.
انظر إلى أعمالي، هل يمكن أن يكون عدو للعلم سلطاناً بذل كل ما في وسعه قرابة ثلاثين عاماً لكي يرى في كل قرية مدرسة.."
"لينظروا إلى الكتب التي طبعت في عهدي وليقارنوها مع ما جاء بعدها، وكم في أوروبا من أديب وفيلسوف وعالم كبير طبعتُ أحسن أعمالهم في عهدي وراجت رواجاً كبيراً، ما أردت أن أتوقاه ليس علم أوروبا، ولكن الجهل به.
سأقول لك إن كل أنسان أظهر من المعرفة بقدر البندقة وجد مني اهتماماً بقدر الجوزة، كيف لا أشجع العلم وكل المصائب التي نزلت ببلادي كانت من جراء الجهل .."
كان قد حول نظره عني وهو يتحدث وكأنه يناجي شيئاً في الأفق، عاد ونظر إلي بذات الود وقال ..
"إني أتحدث بصراحة تامة هذه الأيام التي ارتبطت فيها بالدنيا برباط النفس، وبالآخرة برباط النفيس، أقول لك ليس من هؤلاء الذين تملكوا الدولة من بعدي ويحاولون اليوم تشويه صورتي ليبرروا أفعالهم الشنيعة.. ليس من بينهم من عرف احترام الفكر قدر ما عرفته. سيطروا على الدولة وبمجرد شروعهم بالحكم ظهر أنهم لا يرديون الحرية إلا لأنفسهم فيما يقتل كل من يعارضهم ولا أحد منهم يهتم إلا بمصالحه الضيقة فيما تركوا الناس يغرقون بالجهل والفقر.."
"وأضيف فوق هذا .. وما أقوله ليس ذريعة ولا مبرراً أحاول من خلاله التملص من مسؤوليتي تجاه ما جرى.. ولكن في الواقع لقد تعرضنا لخطة خبيثة للغاية .. الدول الأجنبية كانت قد بدأت منذ أمد طويل بتعزيز النعرات والعصبية من جهة، واستغلال سذاجة بعض الشبان من جهة أخرى ودفعهم للمناداة بالدستور والديموقراطية ..
تعزز عصبية الرعايا من خلال البعثات التبشرية والمدارس والجواسيس من جهة وحثهم على المطالبة بالحكم الذاتي والانفصال، والعمل على المناداة بالديموقراطية من جهة أخرى على أساس أنها الإرادة الحرة للشعب ليسهلوا عملية الانفصال هذه ويدفعوا إلى تفتيت الدولة.
ومع ذلك ورغم كل شيء في بداية حكمي وعندما رأيت أن هناك إرادة لتطبيق الحكم الدستوري، شرعت الدستور ووافقت على تغيير نظام الحكم ولكن وبعد فترة قصيرة بدأت تتجلى الآثار الكارثية جراء إعطاء حرية لشعب غير مستعد ورجال ليسوا رجال دولة .. كان أول قرار أخذوه الدخول في حرب مع روسيا كما ذكرت لك سابقاً!
استند على عصاه الخشبية ونهض، وفزعت أنا ونهضت بدوري، حسبت بأني تجاوزت حدودي وأن اللقاء انتهى!؟، وقفت وقد بدا على وجهي القلق، نظر إلي وابتسم وقال لي اتبعني .. ومشى بخطوات بطيئة وأكمل حديثه ..
"نعم .. عندما رأيت الآثار الكارثية لهذه الحرب، وأدركت أننا لم نكن جاهزين لحكم برلماني بعد، علقت أعمال مجلس المبعوثان (البرلمان) واستلمت زمام الحكم لأحمي الدولة وإلا فإن الدولة العثمانية كانت ستنتهي منذ ذاك الوقت .."
تابع المشي وكنا قد عبرنا الصالون الذي كنا فيه ووصلنا إلى صالون آخر فسيح أعمدته زرقاء (لا أعرف اذا كانت مصنوعة من المرمر) وسقفه مصنوع من الخشب المحفور المزين بخيوط من الذهب ومطعم بالصدف، وفي أماكن مختلفة من السقف وزعت لوحات ورسومات غاية في الروعة والجمال، وأنا في هذه "رحلتي" هذه عبر غرف القصر كنت أجد صعوبة في التركيز على ما يقول فيما أنا أتفحص تفاصيل القصر المثيرة للدهشة ..
تابع كلامه ..
"في ذاك الوقت وخلال أشهر قليلة فقدنا الكثير من الأراضي ووصل الروس إلى ضواحي العاصمة اسطنبول، فعقدت الحكومة بمساندة مجلس المبعوثان (البرلمان) وموافقته معاهدة مذلة مع الدول الغربية (أيا سيتفنوس)، معاهدة لا يمكن القبول بها، فرفضت المعاهدة وعملت على إبرام اتفاقية أخرى (برلين) جعلتها تضم الحد الأدنى مما يمكن قبوله في إطار الحفاظ على سيادتا وكرامتنا، وقمت بحماية الدولة من الانهيار كل تلك السنين .."
وصلنا إلى صالون أصغر من الصالون (الأزرق) مشغول من الخشب والصدف بشكل بديع وكأننا في صندوق ضخم من "الموزايك" متقن الصنع، تتوسط الغرفة طاولة صغيرة نسبياً بجانبها ثلاث كراس، سحب السلطان أحدها وجلس وأشار إلي أن أجلس في الجهة المقابلة له.. وهكذا أصبحنا أنا والسلطان على طاولة واحدة .. ينتظر سؤالي التالي ..
"كثير من الدول تكون ضعيفة ويتم الحفاظ على كيانها نتيجة توازنات القوى العظمى.. ولكن لم تكن هذه القوى في حالتنا تريد بقاء الدولة العثمانية .."
قاطعته وسألت بصيغة التأكيد ..
"نعم بعد أن ولدت أميركا وأصبحت دولة فتية قوية، انتظم يهود العام وسعوا عن طريق المحافل الماسونية للعمل في سبيل الحصول على ما يسمونه "الأرض الموعودة"، وقد جاؤوا بالفعل إلي قبل سنوات وطلبوا مني أرضاً لتوطين اليهود في فلسطين مقابل أن يدفعوا أموالاً طائلة للدولة ولي بشكل شخصي .. وبالطبع رفضت.."
طالما سمعت عن موقف عبد الحميد الثاني من توطين اليهود في فلسطين، وكنت أتوق لسماع التفاصيل منه ..
"في أكثر من مرة كرروا طلب الحصول على أرض في فلسطين، وأكثر تلك المحاولات مباشرة عندما أرسل لي شخص يهودي اسمه "هيرتزل" (مؤسس الحركة الصهيونية) صديقاً له وطلب من خلاله أن نعطي قطعة من الأرض في فلسطين لليهود وعرضوا علي مبلغ 50 مليون جنيه استرليني (يعادل ثلاث مرات ميزانية الدولة العثمانية) بالإضافة إلى تقديم دعم غير محدود والتأثير على الرأي العام بغاية تثبيت قواعد حكمي.. طبعا رفضت وحملت الرسول رسالة لهرتزل قلت فيها بالحرف ..
(أنصح صديقك هذا ألا يسير أبداً في هذا الأمر، لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد، لأنها ليست لي، بل لشعبي. لقد حصل شعبي على هذه البلاد بإراقة دمه، وقد غذاها فيما بعد بدمائه أيضاً. وسوف نغذيها، بل لن نسمح لأحد باغتصابها منا، فليحتفظ اليهود بملايينهم، أما إذا سقطت الدولة وتم تقسيمها فقد يحصل اليهود على فلسطين بلا مقابل، إننا لن نقسم هذه الدولة إلا على جثثنا، ولن أقبل تشريحنا لأي غرض كان).
وصلت الرسالة من هنا وبدأوا جهودهم الفعلية لإسقاطي عن عرش الإمبراطورية، والنتيجة أن عشرات آلاف اليهود استوطنوا فلسطين مباشرة بعد خلعي عن العرش"
بشكل عام كان السلطان مقلاً في كلامه، لا يستفيض في الإجابة على السؤال ما يضطرني إلى طرح المزيد من أسئلة المتابعة حتى أحصل منه على معلومات كافية وأقوم باستغلال فرصة هذا اللقاء بالشكل الأمثل ..
"نعم لقد كنت أرصد حركتهم، وإذا كنا نغفل في بعض الأحيان عم محاولاتهم المستميتة والمتكررة، كان يصلنا اعتراض واحتجاجات من الأهالي، وهكذا أصدرنا القانون إثر القانون لمنع هجرتهم وحتى إقامتهم في فلسطين، واتبعت كل وسيلة ممكنة لتنفيذ هذا المنع وعدم تمكينهم من شراء أي أراض، وعندما بدأت الضغوط تأتي من سفارات الدول الأجنبية بحجة أنه يجب أن نتيح الفرصة لليهود المضطهدين بالإقامة في فلسطين، أجبت: إن الدولة العثمانية ترحب بالمضطهدين، ولكنها لا ترحب بإقامة مملكة لليهود يكون أساسها الدين، وإنه لا أمل ببقاء اليهود في فلسطين"
"مجرد بضع آلاف منهم وتمكنوا من فعل هذا على الأغلب من خلال تقديم الرشاوي إلى بعض الموظفين الحكوميين ضعاف النفوس.
هم بذلوا جهوداً جبارة واتبعوا طرقاً لا تخطر على بال إنسان، ورغم كل هذا فإن عدد اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين في عهدي كان محدوداً للغاية وتحت النظر والمراقبة، وهو لايقارن بعدد الذين استوطنوها في السنوات الأخيرة بعد انتهاء حكمي"
كلامه عن محاولة اليهود المستميتة استيطان فلسطين في ذاك الوقت كانت مفاجأة بالنسبة لي، فنحن وإن كنا قد قرأنا عن الحركة الصهيونية وبداياتها المبكرة، ولكن مع الأسف لم يمتلك جيلنا المعرفة اللازمة بأصل الحركة الصهيونية وتاريخ بداية محاولات اليهود الهجرة والاستطيان في فلسطين، لا أعرف لماذا أن ذكر فلسطين في ذهن جيلنا مرتبط بالنكبة والنكسة، رغم أن القضية مغرقة في القدم وتمتد لمئة عام قبل أن تصبح إسرائيل دولة في العام 1948 ..
الآن بدأت أعتقد أن النكبة كانت مع سقوط الدولة العثمانية.. أو ربما قبل ذلك.. ربما بتاريخ إقامة اول مستوطنة يهودية في أرض فلسطين عام 1878.
توقف عن الكلام فجأة ونظر إلى ساعة معلقة على الحائط، ثم أخرج ساعة معلقة بسلسلة من إحدى جيوبه، ونظر إلي وقال "حان موعد الغذاء .."
الغذاء!؟ انها الساعة الحادية عشر صباحاً، في مثل هذا الوقت عادة أكون لم أتناول فطوري بعد ..، نظر ناحية غرفة في الجانب الآخر من الصالون ليهرول رجل يلبس سروالاً كبيراً باتجاهه وقف أمامه وانحنى انحناءة كبيرة وبقي على هذا الحال إلى أن سمع من السلطان الأمر بإعداد طعام الغذاء لنا ..
يا لسعادتي أنا "معزوم" على الغذاء مع السلطان عبد الحميد الثاني ..
وما هي إلا دقائق حيث دخل مجموعة من الرجال يحملون حقائب مخملية، ووراءهم الرجل ذو السروال الكبير وعلى رأسه طاولة واتجهوا إلى مصطبة حجرية في ركن قريب منا في الصالون الذي نجلس فيه وفتحوا الطاولة وهيّؤها للجلوس وبجانبها كراس واطئة .. وبدأوا بفتح الحقائب ووضع الصحون والأطباق والكاسات عليها .. وما إن انتهوا حتى وقف السلطان ودعاني إلى المائدة، انتظرت حتى جلس ومن ثم أشار إلي أن أجلس في الطرف المقابل..
كانت الطاولة مستديرة وعليها أطباق من الخزف الأبيض حمراء الأطراف ومطلية بالذهب وتحمل علامة خاصة وكذلك أطقم المياه، ولحظت أنه وبعد أن جلسنا جاء أحد رجال الخدمة ووضع ملاحة ذهبية جميلة بجانب السلطان رغم وجود ملاحات أخرى على المائدة ..
دخل الرجال مرة أخرى يحملون طعام الغذاء على صوان وقدور تفوح رائحته الشهية قبل أن يصل إلى المائدة.
كان طعام الغذاء مؤلف من لحم ضأن مشوي، وبيض مقلي بالسمن، و"كستليتة" مقلية بالبيض، كما ضم طبقاً من سمك "الميرلان" وبعض الفطائر المحشية بالسبانخ والجنبة وأنواعاً أخرى لم أميزها ..
لم ينبس السلطان خلال الطعام ببنت شفه، يأكل على مهل بدون تعجل ويمضغ الطعام جيداً، وكنت أحاول أن أفعل مثله وأنا في غاية الخجل، وربما كانت هذه اللحظات من أصعب لحظات اللقاء، تذوقت بعض الطعام من طبق هنا وهناك، وأنا احاول أبقي نفسي مشغولاً بالأكل ريثما ينتهي هو فلا أجلس في موقع "المتفرج" وهو يتناول طعامه.. يا للحرج..!؟
استغرق الغذاء ما يقارب نصف ساعة (شعرت بها وكأنها دهر)، أسرع الرجال ورفعوا أطباق الطعام ووضعوا أخرى أصغر منها وجاء دور التحلية .. قطائف بالقشطة، رز بالحليب ومهلبية وبعض أنواع الحلويات التي لم أميزها .. تناولت صحن "رز بالحليب" على مهل ريثما انتهى السلطان من الطعام.. ونظر إلي وقال قبل أن ينهض عن الطاولة ..
سأذهب لأخذ قسط من الراحة الآن .. سنكمل لقاءنا يوم الغد صباحاً إن شاء الله .. ستكون في ضيافتنا وسيرشدك مصطفى إلى غرفتك أتمنى لك إقامة سعيدة ..
أخذتني المفاجأة .. لم أضع في حسابي على الإطلاق أن أقيم ليلة في قصر السلطان .. ولم تسعفني بديهتي إلا بتمتمة بعض عبارات الشكر نهضت من على الطاولة بعد أن وقف السلطان .. وأدار ظهره وتوارى عن الأنظار وراء أحد الأبواب وأنا واقف وسط القصر الكبير مرتبك لا أدري ماذا أفعل ..
نهاية الجزء الأول من لقائي مع السلطان عبد الحميد ..
نبش القبور
رواية تاريخية تفاعلية مستندة الى احداث تاريخية.
بقلم نضال معلوف
http://www.facebook.com/nedal.malouf
تابع تفاصيل مثيرة اخرى حول اللقاء على صفحة #نبش_القبور على فيس بوك
http://www.facebook.com/BygoneInterviews