دور روسيا "الهدّام" في المنطقة "من الطقطق للسلام عليكم" ..

20.05.2016 | 19:51

إذا أردنا إجراء مقارنة بين السياسات الدولية قديماً في المشرق العربي والسياسات الدولية الحالية، نلاحظ أن القوى العظمى التي كانت تتنافس على ولايات الدولة العثمانية في المشرق العربي (بريطانيا، فرنسا، روسيا)، كانت تحاول إثبات وجودها في المنطقة العربية وحماية مصالحها التجارية، حيث كان همهم طريق الهند التجاري.

ودخلت روسيا القيصرية حلبة التنافس الدولي على بلاد الشام ومصر متأخرة، كشريك مضارب، وليس كمنافس بالمعنى الحقيقي للكلمة. لم تكن بريطانيا حينها مسيطرة لكنها كانت الأقوى، وكانت تضغط دبلوماسياً، لذلك كانت روسيا القيصرية لا تحاول أبداً الاصطدام مع بريطانيا العظمى وخاصة اقتصادياً حيث طريقها التجاري إلى الهند.

اتسعت الساحة الدولية حالياً بشكل أكبر، وتعدد اللاعبون الدوليون (إيران، تركيا، الكيان الصهيوني، فرنسا، بريطانيا، روسيا الإمبريالية، الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي).

وتشهد الساحة الدولية منافسة قوية برعاية دول امبريالية ـ صهيونية، ثبتت سياستها في بلادنا من خلال أنظمة وظيفية رسختها في الحكم لتحقيق مصالحها في المنطقة العربية. وبذلك صرنا مهددين بوجودنا لا بحدودنا فقط.

لقد أضحى الصراع على "الشرق الأوسط" بين القوى العالمية نتيجة تقاطع مصالح شركات النفط والغاز، فأنابيب البترول الخليجي والغاز القطري يجب أن يتم نقلها إلى سوريا عبر الأردن لتصل حمص التي تعد عقدة الأنابيب، ومنها يتفرع خطان إلى حلب وتركيا وأوروبا الشرقية، واثنان إلى طرطوس السورية وطرابلس اللبنانية، ومنها إلى باقي أوروبا وهذا ما دفع روسيا الإمبريالية للمشاركة بالحرب السورية للحفاظ على الخط الجنوبي الروسي الذي يصل أوروبا من خلال تركيا.

فما أشبه اليوم بالأمس، لذلك لابد من العودة إلى عهد روسيا القيصرية لفهم التطورات الحالية ومطامع روسيا الحالية في سوريا.

تحولت روسيا من دولة إقطاعية زراعية إلى دولة عصرية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بفضل الجهود الكبيرة التي قام بها القيصر بطرس الأكبر (١٦٨٢-١٧٢٥)، على كافة الأصعدة (صناعياً، تجارياً، عسكرياً، علمياً وحتى دينياً). وغدت روسيا القيصرية أكبر دولة أوروبية في القرن الثامن عشر الميلادي. واستمر هذا التطور إلى آخر عهد كاترين الثانية (١٧٢٩-١٧٩٦). التي جعلت روسيا القيصرية ولأول مرة تتاخم بروسيا والنمسا، وطورت ذلك من خلال معاهدة كتشك قينارجه عام ١٧٧٤، التي وقعتها الإمبراطورة مع الدولة العثمانية واعترفت من خلالها بحق روسيا بالحماية الفعلية على الكنيسة الأرثوذكسية بكاملها في الدولة العثمانية، واستخدمت روسيا هذا الحق، للتدخل بشؤون الدولة العثمانية الداخلية كلما اقتضت المصالح الأرثوذكسية ذلك.

وتجسد ذلك في أكثر من مناسبة، كان أولها ثورة اليونان ضد العثمانيين خلال السنوات (١٨٢٢-١٨٢٨). والتي انتهت بإرغام الدولة العثمانية على قبول حماية روسيا للمسيحين الأرثوذكس داخل الدولة العثمانية، وأعطت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية مكانة رفيعة المستوى في الأرض المقدسة (فلسطين).

لكن الهدف من وراء هذه المعاهدات التي وقعتها روسيا مع الدولة العثمانية لم يكن دينياً، بل استخدمته روسيا كستار لتحقيق أهداف سياسية لها في الشرق، منها السيطرة على الأستانة وإعادة تنصيرها من جهة، ومن جهة ثانية الاستيلاء على المضائق: البوسفور والدردنيل.

أدركت الإمبراطورة كاترين الثانية أن دخولها حلبة المنافسة على بلاد الشام كانت تعني الصدام المباشر مع بريطانيا، التي كانت تسيطر على تجارة البحر المتوسط كله، بما في ذلك شواطئ بلاد الشام، ناهيك عن أنها الفرع الثاني من طريقها إلى الهند، في وقت التزمت فيه بريطانيا موقف الحياد طيلة الحرب الروسية- العثمانية (١٧٦٨-١٧٧٤)م.

وكانت روسيا القيصرية قد أعلنت عن سياستها التقسيمية للدولة العثمانية، إلا أن خططها اصطدمت في كل مرة بمصالح أوروبية، فالنمسا كانت تنازعها الزعامة على البلقان، وبريطانيا وفرنسا كانتا تريدان الإبقاء على الدولة العثمانية لأن سقوطها يهدد التوازن الدولي برأيهما، لأسباب استراتيجية واقتصادية.

لذلك سعت روسيا إلى التدخل في شؤون الدولة العثمانية كلما سنحت لها الفرصة، ففي حرب الشام الأولى بين عامي (١٨٣١-١٨٣٣)م، التي وقعت بين محمد علي باشا والدولة العثمانية، حيث أراد من خلالها محمد علي ضم بلاد الشام، لتحقيق مشروعه الوحدوي الذي يرمي من خلاله إلى ضمها إلى مصر، سمحت الدول الأوروبية لروسيا بالتدخل في هذه الحرب، أما في حرب الشام الثانية خلال الأعوام (١٨٣٩-١٨٤٠)م. لم تسمح لها بذلك بسبب تبدل الموقف السياسي.

واستطاعت بريطانيا ايقاف محمد علي وتقويض حكمه، ونجحت سياسة بالمرستون بالإيعاز للدولة العثمانية بإعطاء محمد علي باشا ولأول مرة حكماً وراثياً لمصر، وهذا يعني انتقال القوى الأوروبية العظمى من مناطق التوسع والنفوذ إلى التنافس داخل دولة الوراثة (أي تفريغ الدولة من الداخل)، وبذلك تكون بريطانيا هي المستفيدة من هذه التسوية، التي اتبعتها باتفاقية المضائق، وأحدثت نوعاً من التقارب البريطاني - الروسي لضرب المصالح الفرنسية، لذلك وافقت روسيا عليها، لكن في الوقت نفسه فإن معاهدة المضائق حجمت النفوذ الروسي في المضائق البوسفور والدردنيل.

وهذا يقودنا بالنهاية إلى الاعتقاد أن صراع المصالح بين روسيا وبريطانيا يعد من ضمن الأسباب المهمة التي دفعت بريطانيا لتبني مبدأ الحفاظ على الدولة العثمانية، ومنع تقسيم ممتلكاتها بين القوى العظمى، هذا المذهب الذي استمر حتى مؤتمر برلين عام ١٨٧٨م، وأدى بالنهاية إلى جعل روسيا مشلولة تماماً في الساحة الدولية.

لم تكن السياسة الروسية في حينها تختلف عن سياسات القوى العظمى في التعامل مع المسألة الشرقية، بل نظرت إلى كل حدث أو تطور شهدته من منظار مصالحها الخاصة، وبالتالي تبدلت مواقفها وتغيرت تبعا لتلك المصالح، وعندما تطلب الامر التضحية بحلفائها في بلاد الشام فعلت ذلك وبدم بارد، كما فعلت مع ظاهر العمر الزيداني (حركة استقلالية قامت في عكا وصفد ضد الدولة العثمانية)، ولم يكن أمام ظاهر العمر طريق آخر يسلكه، بعدما وصلت علاقاته مع الدولة العثمانية إلى حد اللاعودة، وكان عليه قبول المساعدة الروسية، مهما كانت النتيجة، وهو ما فعله، لذلك قتل عام ١٧٧٥م بعد أن تخلت عنه روسيا.

فالدولة العظمى هي الدولة العظمى، والأقوياء هم الذين يحددون دائماً شروط اللعبة في السياسات الدولية، وعادت روسيا من جديد للتدخل في الحرب الأهلية  اللبنانية بين عامي (١٨٤١-١٨٤٥)م. وعاد الموقف الدولي من جديد ليكرر نفسه، حيث حجّم دور روسيا بالتدخل في هذه الحرب، ولم يسمح لمندوبها في اللجنة الدولية التي شكلت أثناء الحرب الأهلية اللبنانية عام ١٨٦٠م، سوى بالاعتراض على عمل اللجنة الدولية في بيروت، والتي استمرت أعمالها من الخامس من تشرين الأول ١٨٦٠م، ولغاية ٢٣ أيار ١٨٦٢م. وضمت مندوبي الدول الأوروبية العظمى، لوضع نظام خاص لجبل لبنان لمنع تعديات الطوائف على بعضها.

يضاف إلى ذلك تضارب مصالح الدول الأوروبية في الدولة العثمانية خلال القرن التاسع عشر الميلادي، الذي أدى إلى تأزم متواصل في العلاقات الروسية-العثمانية. واشتعلت الحرب مرتين بين الدولتين: الأولى حرب القرم (١٨٥٣- ١٨٥٦)م، وانتهت بمؤتمر باريس عام ١٨٥٦م، والثانية الحرب البلقانية بين عامي (١٨٧٧-١٨٧٨)م .. 

وانتهت بمؤتمر برلين عام ١٨٧٨م، وكان للحربين والمؤتمرين الأثر البعيد في المسألة الشرقية، حيث حجّم دور الدولة العثمانية المتهالكة في أوروبا الشرقية وفي البلاد العربية أيضاً، وكأنها منذ ذلك التاريخ كانت تنتظر نقطة الصفر بعد الحرب الأولى لتعلن هزيمتها النهائية وتخرج من المنطقة العربية وكل الدول الواقعة في فلكها في آسيا.

بينما شل المؤتمر حركة روسيا في الساحة الدولية إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥م، وظهرت رغم ضعفها كقوة منافسة للولايات المتحدة الأمريكية ومنذ ذلك التاريخ اتجهت روسيا نحو الشرق الأقصى، لكن هذا لا يعني أن اهتمامها بالمشرق العربي أصبح منذ ذلك التاريخ ضئيلاً، بل هو قائم حتى يومنا هذا، بحسب ما تمليه المصالح وبالرغم من أن المؤتمر لم يجد حلاً جذرياً للمسألة الشرقية لكنه رسم معالم السياسات الدولية إلى ما بعد حرب عالمية أولى (١٩١٤-١٩١٨)م، وأبرز أول حضور سياسي على الساحة الدولية لألمانيا حققه بسمارك عام ١٨٧٨م.

كان العامل الاقتصادي حاضراً دائماً في عقول النخب السياسية الروسية في سانت بيتر بورغ، أثناء وضعهم لخطط استراتيجية ذات صلة بتوسيع الدولة الروسية على حدودها الجنوبية وحدد هذا العامل بدرجة كبيرة طبيعة السياسة التي اتبعتها الدولة الروسية تجاه الدولة العثمانية سواء في البلقان وأوروبا الشرقية، أو في المشرق العربي، فقد كانت روسيا بحاجة إلى تنشيط حركة التجارة الخارجية لديها، وزيادة حجم الصادرات إلى الخارج، وبخاصة القمح، حيث كانت موانئ البحر الأسود، ومنها ميناء أوديسا من أهم الموانئ الروسية التي تصدر هذه المادة المهمة، نظراً لقربها من مناطق الإنتاج.

وكان لروسيا مصلحة كبيرة في ضمان حرية عبور سفنها التجارية عبر المضائق إلى البحر المتوسط، وفتح موانئ هذا البحر أمام التجارة الروسية، في وقت بدأت فيه الصناعة الروسية الناشئة تشهد تطوراً أزعج الشركات الصناعية والتجارية البريطانية. مما كان يعني تضرر المصالح التجارية البريطانية، التي كانت تسيطر على تجارة شرقي البحر المتوسط كله.

وقد أدى نمط الإنتاج الذي استخدمته الدولة العثمانية في ولاياتها، بما في ذلك المشرق العربي إلى ضعفها، وتغلغل الدول الأوروبية فيها مع مطلع القرن الثامن عشر ميلادي، واتخذ ذلك أشكالاً مختلفة إما اقتصادية لجعلها سوقاً لتصريف البضائع، وبخاصة بعد ظهور الثورة الصناعية في أوروبا، أو من خلال التنافس الاستعماري على ولاياتها، والذي اتخذ شكل الحسم العسكري، وبخاصة بين فرنسا وبريطانيا.

وكان ذلك واضحاً من خلال حملة نابليون بونابرت على مصر عام ١٧٩٨م، حيث أراد هذا الأخير انتزاع مصر من العثمانيين ليكون ذلك بمثابة حجة لإلحاق الضرر ببريطانيا، بانتزاع تجارتها مع الهند والشرق ووضعها بيد الفرنسيين. دون أن ينتبه إلى أن هذه الحملة كانت بمثابة هدية للقيصر الروسي واستغلها من أجل التوسع على حساب الدولة العثمانية، بعد التوقيع على معاهدتين دفاعيتين (١٧٩٩-١٨٠٠)م.

سمح السلطان العثماني من خلالها للأسطول الروسي بالمرور عبر المضائق البوسفور والدردنيل إلى البحر المتوسط، حيث نجحت هنا الدبلوماسية الروسية في متابعة مخططاتها بالوصول إلى البحر المتوسط بعد أن كانت قد وصلت في عهد كاترين الثانية إلى البحر الأسود.

د. براءة زيدان

إحالات:

ـ حول معاهدة كتشك قينارجه عام ١٧٧٤م: انظر تفاصيل الاتفاقية في النص الروسي:

Брикнер А.Г.,История Екатерины Второй . Москва . АСТ. 2004. стр. 374 ، 375 ، 376

ـ حول الحرب الروسية العثمانية (١٧٦٨-١٧٧٤)م: انظر المرجع السابق 667 – 672  стр.

ـ حول حرب الشام الأولى والثانية انظر:

Новая история стран зарубежной Азии и Африки . Ленинградский университет 1971г. Стр. 486

ـ الحركات الاستقلالية في ظل الدولة العثمانية (حركة ظاهر العمر الزيداني) انظر: العكاوي: مخائيل، الصباغ: نقولا، ظاهر العمر الزيداني (حاكم مدينة عكا وصفد )، طبعة القديس بولس، حريصا، لبنان،١٩٣٥م، ص١١٥ وما بعد.

ـ حرب القرم بين عامي (١٨٥٣-١٨٥٦)م: انظر ستروكوف.آ.آ. تاريخ فن الحرب، ترجمة صباح الدين الأتاسي، دمشق، وزارة الدفاع، ط1 ١٩٨٦.

ـ حول الموقف الروسي من حرب لبنان خلال الأعوام (١٨٤٠-١٨٤٥)م، انظر: بازيلي، قسطنطين، سوريا ولبنان وفلسطين تحت الحكم التركي، ترجمة: يسر الجابر، منذر الجابر، دار الحداثة، ط1 ١٩٨٨، ص١٦٢ وما بعد.

ـ  الحرب البلقانية (١٨٧٦-١٨٧٨) انظر: مجلة تاريخ العرب والعالم، العددان (٧٤-٧٥)، ١٩٨٤، العلاقات الروسية العثمانية (سياسة الاندفاع نحو المياه الدافئة)، سنو: عبد الرؤوف.

ـ حول معاهدة باريس انظر: الكسييف، ترويتسكي، كارتسوف، موجز تاريخ الاتحاد السوفيتي، ترجمة محمد الجندي، دار التقدم، موسكو، ١٩٧٤ م، ص٢٦٤-٣٤٤.

ـ حول تفاصيل حرب لبنان عام ١٨٦٠م انظر: طربين، أحمد، أزمة الحكم في لبنان منذ سقوط الأسرة الشهابية وحتى ابتداء عصر المتصرفية (١٨٤٢-١٨٦١)م، بيروت، دار الفكر المعاصر، ط2، ١٩٩٠،ص ٨٨-١٢٠.

وانظر أيضاً: ضاهر، مسعود ، الانتفاضات اللبنانية ضد النظام المقاطعجي، مكتبة الفارابي، ط1، ١٩٨٨، ص ١٧٥-١٨٠.
ـ حول اللجنة التي وضعتها الدول الأوروبية لحل الأزمة حرب ١٨٦٠م، انظر: ضو: انطوان، حوادث ١٨٦٠ في لبنان ودمشق، لجنة بيروت الدولية، المحاضر الكاملة، (١٨٦٠-١٨٦٢)م، بيروت، الزلقا، ١٩٩٦، ج١-٢.

ـ حول مؤتمر برلين انظر: صفوت محمد مصطفى، مؤتمر برلين عام ١٨٧٨ وأثره على البلاد العربية، جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالمية، ط1، ١٩٥٧، ص٢-٤.

RELATED NEWS
    -