مساهمات القراء
عذرا مصر، إنّا في ابتلاء ... بقلم: فراس الفريح

مساهمات القراء
أثناء مداخلتي مع الأستاذ نضال معلوف — وهو صوتنا الذي يسمعنا أيضا — قلت بصراحة أن أحد أسباب خوفي من المستقبل في سوريا هو وجود الإسلام السياسي على الأرض، وأنه ليس لدينا جيشٌ وطنيٌّ ولا تيار مدني قويّ، ولا شخصية حازمة بمستوى وعي المشير عبد الفتاح السيسي. عقب الأستاذ نضال مساعدا لي لشرح الفكرة بأنه لا يوجد أي مؤسسات حاليا في سوريا وهو بالطبع أمر صحيح، في قرارة نفسي قصدت أن هذا السرطان لا تُواجهه المؤسسات، بل يُستأصل — كما حصل في مصر — بوجود جيشٍ وطنيٍّ، بحركة ‘تمرد’ الشعبية، وبقائدٍ واعٍ وحازم.
ما حدث في دمشق مؤخراً من شتم للسيد رئيس جمهورية مصر الشقيقة عبد الفتاح السيسي والانتقاد لدور مصر في حرب غزة، لا يعدو محاولةً جديدة من سلطة الأمر الواقع في دمشق لخلق شعارات بطولية تُخفي الفشل والشلل في أداء الجمهورية السورية حتى على المستوى الإنساني تجاه أهل غزة. المجرم في غزة ليس نتنياهو وحده، بل هناك شريكٌ فصائلي شريك لسلطة الأمر الواقع في سوريا — وأقصد بالطبع حركة حماس.
ما شهدته مظاهرة دمشق، المدعومة من سلطة الأمر الواقع، خطوة في سلسلة قد تجرّ سوريا إلى تجربة أشبه بأفغانستان، أو في أفضل الأحوال إيراناً جديدة. علينا أن نقاوم كي لا نكون السودانَ التالي.
الإسلام السياسي: المرض الذي يلتهم مستقبل الدولة الحديثة
من يريد أن يقرأ ملامح الخطر عليه أن يفهم أسس الإسلام السياسي: الحاكمية لله، فكرة الجاهلية المجتمعية، والغاية النهائية إقامة دولة خلافة أو مجتمع يخضع لتطبيق شرعي أحادي. هذه الأيديولوجيا ليست مشكلة فقط بمنظورٍ عقدي؛ المشكلة أنها تمارس عملية أسلمة تدريجية للمجتمع، تبدأ بمطالب رمزية ثم تتحول إلى قوانين وممارسات تقصي الآخر وتُكمّم صوت العقل.
الإسلام السياسي لا يحتاج أن يكون الأكثر عدداً ليفرض سيطرته؛ يكفي أن يمتلك الكوادر، النفوذ، أدوات القمع الرمزي، وقدرة على إسكات الأصوات الحرة. في سوريا اليوم هذا ينعكس في ضعف الجسد المدني، غياب جيشٍ وطنيٍّ موثوق، وانتشار شبكات دينية وسياسية قادرة على ملء الفراغات.
هناك من يراهن على صلاحية "التغيير من الداخل" — استبدال واجهات الحكم أو وزارات تكنوقراط أو ما شابه — لكن التجارب تُظهر أن هذه التيارات تتعامل بازدراء مع مفهوم الدولة، وتؤمن بنهج تدريجي للهيمنة حتى إن قدمت في خطابها التنازلات المؤقتة أمام الغرب. الاختلاف بين الإخوان والسلفية الجهادية غالبًا ما يكون في الأساليب لا في الغايات، وكلا التيارين يخرجان من نفس المنبع الفكري في الجوهر. وفي التجربة السورية تحديدًا أُحيل القارئ الكريم إلى مقابلة أبي محمد الجولاني حينها مع صقر الإخوان المسلمين أحمد منصور مذيع قناة الجزيرة، والنقاش الذي أكّد فيه الطرفان أن الإخوان والسلفية الجهادية يرتوون من معينٍ واحد.
بين الأسطورة والواقع: صناعة الوهم القاتل
تحدّث أحد المستشارين الإعلاميين مؤخرًا، وهو من رموز الإخوان المسلمين السوريين والداعي للمفارقة لحل الجماعة، عن "المارد العشائري العابر للحدود الوطنية" باعتباره القوة التي أوقفت إسرائيل ومنعتها من التقدّم في مشروعها في الجنوب السوري. الرواية جذّابة من حيث الشكل، فهي تستحضر صورة القوة الشعبية الأصيلة التي تُرهب الخصوم — دون الخوض هنا في كارثية الطرح على عدة مستويات— لكن الواقع الميداني مختلف: قصف إسرائيل لدمشق أوقف تقدّم "الفزعات العشائرية" باتجاه السويداء. تلك الضربة أعادت خلط الأوراق، وفرضت إيقاعًا جديدًا على مسرح الأحداث، وأجبرت الأطراف جميعًا على التراجع خطوة.
بعبارة أخرى: لم يكن "المارد العشائري" هو من ردع إسرائيل، بل إسرائيل نفسها هي التي استخدمت قوتها الجوية لوقف أي تطور ميداني كان سيؤدي إلى مجازر جديدة في السويداء من وصول فزعات العشائر. ما يهمنا هنا كشف خطورة صناعة الأساطير الدعائية على حساب قراءة الحقائق. المستشار يعلم ان المقاومة الشعبية في السويداء هي من صدت القوات المهاجمة من الأمن العام والبدو والعشائر في داخل المحافظة، هناك استسهال في الكذب مفرط لدى جماعات الإسلام السياسي، دون تقدير للعواقب.
الشيء بالشيء يذكر، أن الشيخ القرضاوي عندما أصدره فتواه الشهيرة بشرعية العمليات الاستشهادية / الانتحارية في منتصف التسعينات لدعم حركة حماس اثناء تفجيرات القدس الدموية — وهو امر اعطى الإسلام السياسي سلاحا جديدا شرعيا — لم يكن يعلم أو لم يكن مهتما أن هذه العمليات ستصل الى تفجير المصليين في كنيسة مار إلياس في الدويلعة بعد 30 عاما.
وهذا ما نخشاه في سوريا، إن اقل بذرة تزرع من هؤلاء في الأرض السورية، لا نعرف كيف ومتى ستقتل أبرياء قد يكونون خارج حدود الدولة السورية حتى.
ازدواجية القواعد الشعبية: قبول الشيء وضده
الضغط على القواعد الشعبية كبير، لكن الأغرب هو قبولها المتكرر للشيء وضده. مثال صارخ هو ما يحدث في غزة: هناك من يقتنع أن المقاومة صامدة ومنتصرة لما يراه على قنوات الدعم الإخواني الفضائية، وفي الوقت نفسه يشاهد الدمار والتهجير والقتل الذي لحق بأهلها على نفس تلك القنوات الفضائية.
يعيش هؤلاء الناس بين شعورين متناقضين: الفخر بانتصار رمزي والغضب من هزيمة واقعية. هذا التناقض يُستغل من الإسلام السياسي لصناعة سردية مزدوجة: "نحن منتصرون رغم الخسائر"، وهو خطاب يجمّل الهزيمة ويحوّلها إلى مادة إيمانية بدلاً من مراجعة سياسية، هذا الخطاب نعيش تداعياته منذ أكثر من قرن، عندما تصدت جماعات إسلامية وشخصيات فاعلة بحينها لرفض مشروع الحداثة الذي كان يزحف الى مصر الدولة التي قد تكون الوحيدة في المنطقة، وكانت هذه الازدواجية مقروءة على سبيل المثال في تصريحات الشيخ محمد عبده عندما زار باريس، قال: رأيت اسلاما ولم أرى مسلمين أو جمود العقل العربي إلى زوال، وكلا التصريحين يحملان ازدواجية كبيرة لا يمكن ان تجتمع الا في ادبيات تيار الإسلام السياسي.
لو أخذنا مثلا في حالة السويداء أحد الأشخاص الذين قالوا في أحد الفيديوهات المشهورة حديثًا صحيحًا بأن "من جهّز غازياً فقد غزا" مع التأكيد أن القواعد الشعبية الداعمة للإسلام السياسي قد لا تكون معه أصلاً — أقصد لا بشكل تنظيمي ولا حتى بقبول مباشر لأفعاله — وحاولنا فهم دوافعه لدعم الهجوم على السويداء، ربما نرى كيف يُجنّد الإسلام السياسي المجتمع ليكون طيّعًا وبلا إرادة. المستوى الأول والذي ينجح غالبا، الضخ العاطفي، في مثالنا: أن أهل السويداء انفصاليون ويدعمون إسرائيل، وأن إسرائيل تقتل "إخوانهم المسلمين" في غزة وأن إخوانهم في حماس ما زالوا صامدين. المستوى التالي إن واجهوا شخصًا أكثر ثقافة أو اطلاعًا سيقومون بمواجهته بعبارتهم الشهيرة: "قال الله أم قال الرسول؟" ماذا سيرد عليهم هذا المسكين؟ سيسكت طبعا؛ ونادرا ما ننتقل للمستوى الثالث فيكون هذا الشخص عالماً بدينه حقًا ويردّ عليهم بسياق الآيات وتفسيرها وأسباب الأحاديث، هنا التهمة جاهزة: إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وكفْرُ من ينكر معلومًا من الدين بالضرورة — وهذه الاتّهامات كفيلة، عزيزي القارئ، بتصفية الشخص اجتماعيًا ومعنوياً وحتى جسديًا.
دروس من التجارب الإقليمية: لماذا ليست كل الدول الإسلامية واحدة
عندما ننظر إلى تجارب المنطقة نجد اختلافًا كبيرا بين الدول الإسلامية، فعلى سبيل المثال: تركيا التي انكفأت على مشروع حداثي علمانيٍ في بدايات الجمهورية واليوم لا زالت صامدة أمام المشروع الإخواني التركي ولا نعلم إلى متى، السعودية التي مرّت بتحولات مختلفة فكرية وسياسية لكنها تسير نحو الأمام، والإمارات التي بنت نموذجًا حداثيًّا قائمًا على حكمٍ فعال، وقوةٍ ناعمة، ودبلوماسيةٍ اقتصادية. النتيجة أن النمط السياسي ليس هو المحدّد الوحيد للنجاح؛ بل أن وجود دولة حديثة تقوم على حكم القانون والكفاءة الإدارية واحترام الحقوق هو مفتاح الحفاظ على كرامة المواطنين بغضّ النظر عن هويتهم الدينية، فعلى سبيل المثال الدولة السعودية كانت منذ نشأتها بما يعرف بالدولة الثالثة دولة تعتمد على القوانين رغم وجود فترات طفى فيها التطرف الديني على السطح.
مصر تجربة مركبة: تيار الإسلام السياسي قوي ومتلون، والمجتمع المصري يواجه صراعًا مستمرًا بين قوى الحداثة وقوى الولاية الدينية السياسية، مصر اليوم تستكمل حالة تعافٍ واحتواء من عملية استئصال الإسلام السياسي — وإن كان لها ثمنها وانتقاداتها — لكن الشعب المصري والدولة المصرية سلمت بشكل كبير من شروره. إن وجود قوة وطنية فعلية قادرة على حماية المجتمع من مشاريع الهيمنة الأيديولوجية أمر حاسم، وهو ما نطمح له في سوريا.
اعذرونا يا أهل مصر المعمورة — فأنتم تعرفون ما نمر به مع الإسلام السياسي وسلطة الأمر الواقع، نقدر وقفتكم معنا واحتضانكم لنا قبل الثورة السورية وبعدها، وسنقولها دومًا من كل بقعة في الجغرافيا السورية مفككة كانت او بقيت متوحدة: هنا القاهرة.
-----------------------------------------------------------------------
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]
TAG: مساهمات القراء

ترامب يعلن تفاصيل خطته بشأن غزة واعترافه بضم الجولان لاسرائيل

الشيباني: سوريا القوية والموحدة ستفيد إسرائيل.. والحديث عن تطبيع "صعب" بسبب التصعيد العسكري

الطاقة: تحسين واقع الكهرباء بسوريا مع دخول الغاز الأذري إلى منظومة الشبكة

توم باراك: الاتفاق الامني بين سوريا واسرائيل لم يفشل

اكتشاف مقبرة جماعية في تلكلخ بريف حمص

محافظة دمشق تتحمل مسؤوليتها بحادثة مبنى السرايا وتؤكد فتح تحقيق فوري

وفد من وزارة الدفاع السورية يزور روسيا

مدرسون في قطاع التربية يحتجون بالسويداء للمطالبة بصرف رواتبهم

سوريا تستنكر الهتافات المسيئة لمصر خلال وقفة تضامنية مع غزة
