مساهمات القراء
لماذا لم تنجح الدِّيمُقْراطِيَّةُ في العالَمِ العربيِّ؟... بقلم خلدون موسى قطيش
في البدايةِ يَجِبُ أنْ نُصَحِّحَ مَفهومَ الدِّيمُقْراطِيَّةِ والتي بحسبِ جورج طرابيشي تعني "الاحتكامَ إلى صَناديقِ العقلِ وليسَ صناديق الاقتراعَ" كما هو المفهوم الشائعٌ بمعنى أنَّ "الاقتراعَ" حتّى يكونَ فَعّالًا يَجِبُ أنْ تَسبِقَهُ حُرِّيَّةُ الصحافةِ ومجتمعٌ مدنيٌّ قويٌّ وألّا تسودَ أيةُ فتاوى دينية وقد طُرِحَ هذا السؤالُ على الكاتبِ والأديبِ طه حسين فقال: "لقد نجحتِ الدِّيمُقْراطِيَّةُ عند اليونانِ لأنَّها حضارةُ عقلٍ وفلسفةٍ وفَشِلَت عند العربِ لأنَّهم مجتمعُ بداوةٍ وحضارتُهم حضارةُ فِقهٍ".
أما أرسطو فقد وصفَ الشعوبَ الشرقيةَ بأنَّها مجتمعاتٌ بربريةٌ لا تُنَجِّحُ الدِّيمُقْراطِيَّةَ وكذلك الحالُ في الهندِ والصينِ واليابانِ والسببُ هو أنَّ هذه الشعوبَ تُحِبُّ الاستبدادَ وتَعْشَقُ الحُكْمَ المركزيَّ المُطْلَقَ ويؤكّدُ هذه الفكرةَ ما قاله محمد عبده: "إنَّهُ لا يُصْلِحُ الشرقَ إلَّا مُسْتَبِدٌّ عادلٌ".
ولِمنَاقِشَة فكرةَ الدِّيمُقْراطِيَّةِ بشكلٍ أكثرَ عُمقًا يُمكنُ القولُ إنَّ الأفكارَ لا تَأخُذُ صِفةً كونيةً - بمعنى أنها صالحة لكلِّ زمانٍ ومكانٍ مثلها مثل الدَّواءِ – ولكن يجب اعتبار الديموقراطية كمفهوم و كفكرة يمكن نجاحها إذا زُرِعَت في تربةٍ صالحةٍ فالماركسيةُ -مثلًا- لم تنجحْ عند العربِ لأنَّ جوهرَ الماركسيةِ يقومُ على أنَّ العاملَ الغربيَّ يعملُ لِيَتقاضى أجرًا على عَمَلِهِ، بينما العاملُ الشرقيُّ يعملُ بَحثًا عن الرِّزقِ لأنَّه يَعْتَبِرُ مردودَهُ رزقًا من الله لذلك تراه يأخذُ لُقمةَ الطَّعامِ و يُقَبِّلُها ويَضعُها على رأسِه شُكرًا للمُنْعِمِ وليسَ لِرَبِّ العملِ.
إذًا الماركسيةُ كفكرةٍ لم تنجحْ لأنَّها زُرِعَت في بيئةٍ غيرِ صالحةٍ وكذلك الدِّيمُقْراطِيَّةُ، كفكرةٍ هي مُمتازةٌ ولكنَّها لن تُنْجِحَ في البلدان العربية إلّا إذا توافَرَت لها الشروطُ والعواملُ المناسبةُ.
ما هو النِّظامُ الذي يُناسِبُ الشعوبَ العربية؟
يمكنُ القولُ إنَّ الإجابةَ على هذا التَّساؤُلِ تَكْمُنُ في تَبَنِّي ديمُقْراطِيَّةٍ خاصَّةٍ بنا تتلاءمُ مع ظُروفِنا وبيئتِنا بمعنى آخَرَ يَجِبُ "أقْلَمَةُ" الفكرةِ أي تَهيِئَةُ الظُّروفِ والشُّروطِ التي تُساعدُها على النُّموِّ مثلها مثلَ النَّبتةِ التي تحتاجُ إلى تربةٍ ومُقَوِّماتٍ مُناسِبَةٍ ولا يَجِبُ تَبَنِّي أفكارٍ غربيةٍ أو استِنْساخِها مهما كانت برّاقةً لأنَّ ذلك مَدعاةٌ للفشلِ في واقعِنا العربيِّ.
النُّقطةُ الثانيةُ التي تَجِبُ الإشارةُ إليها هي أنَّ أيةَ أفكارٍ مثلَ العَلمانيةِ والدِّيمُقْراطِيَّةِ والتعدُّديةِ وغيرها هي مواضيعُ للفهمِ وليسَ للتقديسِ ذلك لأنَّ هذه الأفكارَ ليست مُطْلَقَةً وإنما هي أفكارٌ نِسْبِيَّةٌ ففي العالمِ العربيِّ يَغلِبُ علينا تَقدِيسُ الأشخاصِ كما أكّد مالك بن نبي حين وصف العربَ بأنَّهم "انتقلوا من تَقدِيسِ الأصنامِ إلى تَقدِيسِ الأشخاصِ". وبالتالي فإنَّ كلَّ الأفكارِ المطروحةِ في العالمِ العربيِّ ليست للتقديسِ وإنما هي أفكارٌ للفهمِ والتكييفِ مع الواقعِ ويَجبُ علينا خلقُ واقعٍ مُناسِبٍ لنا في إطارِنا العربيِّ.
لماذا لا تزال القَبَليَّةُ تُؤثِّرُ علينا؟
ما زِلْنا نُعاني من أمراضٍ اجتماعيةٍ كثيرةٍ كالقبليةِ ولو عادَ ابنُ خلدون إلى حاضرِنا "لن يُعدِّلَ شيئًا من نظريتِه" بل يزيدُ ابنُ خلدونَ الأمرَ وضوحًا حين وصف العربَ قائلًا: "القَبَليَّةُ أفسدَتْ على العربِ عالَمَ الإسلامِ وعالَمَ الحداثةِ" ولا يزالُ هذا الأمرُ قائمًا إلى يومِنا هذا فمثلًا عندما يَتَبَوَّأُ شخصٌ منصبًا وزاريًّا أو إداريًّا... فأوَّلُ ما يفعله هو تعيينُ أقاربِه والسببُ كما أوضح الماوردي أنَّ كلَّ من جاءَ إلى السلطةِ في العالمِ العربيِّ استبدَلَ أهلَ الكفاءةِ والخبرةِ بأهلِ الثِّقةِ الذين غالبًا ما يكونون الأقاربَ أو أبناءَ العشيرةِ وهذا ما يتناقضُ مع ما يسود في الغرب حيث تجاوزوا مرحلةَ العصبياتِ والقبلياتِ فمثلًا قامَ أبراهام لينكولن بتعيينِ أشدِّ أعدائِه في مناصبَ حساسةٍ وعندما سُئلَ عن ذلك قال: "أنا لا أقيسُ الناسَ بمقدارِ حبِّي لهم أو قربِهم مني وإنما بكفاءتِهم".
خاتمة القول أن الجماعات البشرية في الغربِ انتقلوا منذ خمسةِ قرونٍ من روابطِ الدمِ إلى الروابطٍ الثقافيةٍ والإنسانيةٍ والمواطنةٍ أما نحن فلا زلنا نرزحُ تحتَ وطأةِ الأحزابِ الدينيةِ والقَبَلِيَّةِ والأُسَرِيَّةِ التي لم تغادِرْ عقولَنا قط و حتّى يوَمنا هذا.
---------------------------------------------------------------
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل [email protected]