تحولات سوريا بين تعقيدات الواقع وآفاق المستقبل ... بقلم : جمال حمور
الوضع السوري اليوم يشبه واقعًا معقدًا يفرض على أي تحليل شامل الجمع بين السياسة والاقتصاد والأمن والمجتمع والعلاقات الدولية. بعد سنوات من الحرب والعقوبات والانقسامات الداخلية، تواجه سوريا اختبارًا تاريخيًا مع وصول أحمد الشرع إلى السلطة، وتقديمه خطابًا عالميًا يوحي بانفتاح سياسي، بينما الواقع على الأرض يكشف عن صورة أكثر قتامة وتعقيدًا، تجعل أي قراءة للمستقبل بحاجة إلى تفكيك دقيق للعوامل المتشابكة التي تؤثر على البلاد.
أول أبعاد الأزمة هو الاقتصادي، حيث يعاني الاقتصاد السوري من تدهور خطير ينعكس على معيشة المواطن اليومية، مع تضخم مستمر وارتفاع البطالة وانعدام القدرة الشرائية، فيما يغيب الاستثمار الخارجي بسبب العقوبات، أبرزها قانون قيصر الأمريكي. هذه العقوبات تحولت إلى حواجز تمنع أي محاولة جدية لإعادة فتح البلاد اقتصاديًا. إضافة إلى ذلك، تراجع الإنتاج في القطاعات التقليدية مثل الصناعة والزراعة إلى مستويات خطيرة، رغم أن سوريا تمتلك موارد طبيعية مهمة، مثل احتياطيات الفوسفات وموارد الطاقة، إلا أن غياب الاستقرار القانوني والأمني يحول دون استثمار هذه الإمكانات. القطاع الصحي لم يتعافَ من آثار الحرب والعقوبات، مما يزيد الضغوط الإنسانية والاجتماعية. كل هذه المعطيات تجعل أي خطوة نحو إعادة الإعمار أو النمو الاقتصادي مرتبطة بالموقف الأمريكي والأوروبي ومدى إجراء إصلاحات سياسية ملموسة، وهو ما لم يتضح بعد. الاقتصاد المتهالك يؤدي بدوره إلى توترات اجتماعية وسياسية وأمنية متشابكة، تجعل كل عملية إصلاح صعبة التنفيذ.
على المستوى السياسي، يقدم أحمد الشرع نفسه كقائد انتقالي يسعى لبناء دولة مدنية، مع توقيعه الإعلان الدستوري في مارس 2025 الذي يفترض أن يضمن فصل السلطات والحريات الأساسية، لكن التطبيق الفعلي يشوبه الشك. التحضير للانتخابات البرلمانية المزمع عقدها في أكتوبر يثير التساؤلات حول استقلال البرلمان وقدرته على تمثيل إرادة الشعب، خاصة أن النظام الانتخابي يسمح للرئيس بتعيين ثلث الأعضاء. في الوقت نفسه، العقوبات الدولية والقوائم السوداء التي تشمل الشرع وبعض معاونيه تعيق أي محاولات للتطبيع الدولي، مما يقلل من مصداقية الإصلاح السياسي، ويطرح تساؤلات حول ما إذا كان الخطاب الديمقراطي مجرد واجهة، بينما يبقى الداخل تحت سيطرة أساليب السلطة التقليدية والأمنية.
الجانب الأمني في سوريا لا يقل هشاشة، مع استمرار عمليات القتل على خلفيات طائفية، كما شهدت طرطوس حادثة قتل مرشح لمجلس الشعب وعدد من المدنيين. الشمال الشرقي يشهد مناوشات متكررة رغم اتفاقات غير منفذة، والجنوب، خصوصًا السويداء، يبقى منطقة توتر، رغم تفاهمات مع الأردن والولايات المتحدة لتوزيع السلطة محليًا. هذه المعطيات تظهر أن الحكومة الانتقالية لم تستطع بعد فرض سيادة كاملة، وأن النظام يحاول تقديم صورة دولة موحدة بينما الواقع يعكس هشاشة الأمن وغياب السيطرة على كامل الأراضي.
العلاقات الخارجية لسوريا معقدة أيضًا، حيث تفرض الولايات المتحدة عقوبات بسبب غياب خطوات ملموسة نحو الديمقراطية والمساءلة، والمفاوضات مع إسرائيل متعثرة، والعلاقات مع الدول العربية محدودة بسبب مخاوف الانخراط المبكر. روسيا وإيران تحافظان على نفوذهما في ظل تغير موازين القوى، بينما الولايات المتحدة تحتفظ بمواقع استراتيجية في الشمال والشرق، ما يجعل سوريا في قلب صراع جيوسياسي يعوق استقلالية أي إصلاح داخلي. خطاب الشرع في الأمم المتحدة عن الانفتاح وإعادة الإعمار اصطدم بالقيود الخارجية، مما يجعل أي تحول سياسي مرتبطًا بتحييد النفوذ الدولي.
على الصعيد الاجتماعي، تظهر محاولات لإعادة إنتاج هوية أحادية تفرض نفسها على المجتمع، عبر التضييق على التنوع الثقافي والفكري، وهو تناقض مع الخطاب الرسمي عن دولة مدنية. الحاضنة الشعبية للشرع، المبنية على الولاء السياسي والطائفي والأمني، قد تواجه صعوبة في تقبل التحول إلى دولة مدنية، بينما قد يكون المواطنون المنهكون من الحرب والفقر أكثر استعدادًا لتبنّي خطاب المواطنة إذا رأوا فيه ضمانة لحياة أفضل. فالتساؤل الأهم يبقى حول مدى إيمان الشرع نفسه بالديمقراطية الحقيقية والعلمانية، أم أنه يكتفي باستخدام لغة دولية مع الاحتفاظ بالسيطرة الداخلية.
في الختام، يمكن القول إن مستقبل سوريا يعتمد على عدة مفاتيح: استعداد الشرع لتبني قناعات ديمقراطية حقيقية، قدرة البرلمان القادم على الانتقال من مؤسسة شكلية إلى برلمان فعال، تعامل المجتمع الدولي مع النظام الجديد وإمكانية رفع العقوبات، واستعداد الحاضنة الشعبية للتخلي عن امتيازاتها لصالح بناء وطن قائم على المساواة والحقوق. المرحلة الحالية هي حقل ألغام، حيث يمكن لأي خطأ أن يعيد البلاد إلى الفوضى، بينما أي خطوات مدروسة قد تفتح فرصة نادرة لإرساء دولة مدنية متكاملة.
-----------------------------------------------------------------------
*الاراء الواردة في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن سياسة الموقع
*ارسل مساهمتك على الايميل info@syria.news