ما هذا الأضحى الذي يمرُّ على سورية وشعبها كله أضحية بين ميِّتٍ ونازحٍ ومهاجرٍ ومحروم ومفجوع ومعدوم ... بقلم : د. عبد الحميد سلوم

لا أعتقدُ أن شعبا فوق هذا الكوكب يعيش محنة ومأساة الشعب السوري ، في خضمِّ الحروب والتطرّف والتعصُّب والإرهاب والصواريخ والقذائف والفقر والجوع والقهر والمذلّة والبطالة والهجرة والنزوح والتشرُّد والفساد ، وفوق كل ذلك، الغلاء الذي يزداد كل يومٍ وكأنه لا توجد حكومة ولا سُلطة معنيةٍ بالمواطن ولا بالأسواق ولا بالأسعار ولا بشيْ على الإطلاق ، ولا بِكل هذه المعاني وما تحمله من مآسٍ ودماءٍ ودموع وقهرٍ ..

 

*لا شكًّ أن هناك مسئولين يتمتعون بالضمير والوجدان ولكن ينطبق عليهم القول : العين بصيرة واليد قصيرة ، فواحدهم قد يعمل ما بوسعهِ بِعدالةٍ وضميرٍ في مجال نفوذه ومؤسسته وسلطتهِ ، وهناك آخرون لا يحمل واحدهم ذرّة من ضمير ولا من أخلاق ولا من وجدان ، ولا حتى من تربية بيتية ، وواحدهم يبدو وكأنه نشأ وترعرع في الشوارع والأزقّة ، فلا يعرف سوى عقلية العصابات والمزارع والتنفيع بحسب الواسطات والشخصنات ، ويمارس التمييز بأبشع وأحط أشكاله وفقَ أمزجته المريضة وعقلهِ الصغير اللئيم التافه المحدود !. لقدُ عرفتُ النوعيتين ، وإذْ أُحيي النوعية الأولى على ما تحمله من شعور عالٍ بالمسئولية الوطنية فإنني أزدري النوعية الثانية لانعدام أي إحساس بالمسئولية الوطنية لديها ، وأدعو الجميع لازدراء هذه النوعية والمطالبة بتغييرها ومسائلتها ومحاسبتها بسبب تغييبها لكل المعايير والأُسس ودعسها على كل شيء اسمه عمل مؤسساتي واستبداله بالكيد واللؤم والوضاعة والواسطات والمحسوبيات دون أدنى وخْزٍ من ضمير أو وجدان !.

 


*هذه النوعية عديمة الإحساس لا يعنيها أن ترى الملايين من الناس لا تستطيع توفير لقمة العيش الضرورية للحياة ، بينما تسمح لنفسها ببقاء البعض في المناصب لسنين غير محدودة ليجمعوا مئات ملايين الليرات السورية من حساب دماء الفقراء والشهداء ، وواحدهم لم يقدم لهذا الوطن نقطة دم واحدة ، وهرّبَ كل أولاده من خدمة العَلم الإلزامية !. هذه النوعية عديمة الإحساس تعرف نفسها ، وتعرف أن الجميع يعرفها ، ولكنها لا تتحسّس حتى لو وخزتها بالمسلّة ، بينما الخنزير يتحسّس لو وخزتهُ بإبرة !. أمثال هذه النوعية هُم دواعش الدولة !.


*الفقراء وأولاد الفقراء هُم من كانوا وقود هذه الحرب في سورية ، وواحدهم لا يمتلك حتى وظيفة بسيطة في الدولة تسدُّ رمقَ عيشهِ ، بينما الأثرياء والمدعومين والآكلين للبيضة وقشرتها لم يقدموا شيئا سوى المزايدات والتصريحات وخطابات الإنشاء وتشجيع أولاد الآخرين للتضحية التي يُبعِدون أولادهم عنها بشتى السبُل !. ومع ذلك لا شيئا يشفع للفقير الذي قد يكون ضحّى بفلذات كبدهِ من أجل الوطن ، فقد يُهانُ ويُقهرُ في أية لحظة ، تحت مائة حجّةٍ وحجّة !.


*خمسُ سنواتٍ من حربٍ حقودة مارس خلالها السوريون كل أشكال الوحشية بحق بعضهم بعضا ، ولو بذلوا عشرة بالمائة من هذه التضحيات في وجه بعضٍ ، لو بذلوها من أجل تحرير الجولان ، لحرّروها دون أن يخسروا عشرة بالمائة مما خسروه من أرواح ، وما تدمّر عشرة بالمائة مما تدمّر ، وما عادت سورية ثلاثون عاما إلى الوراء وباتت إعادة توحيدها أشبه بالمعجزة ، وتشرّد أبناؤها في كافة أصقاع المعمورة ، وباتوا موضع شفقة العالم وكافة منظماته الإنسانية !!.


*لماذا جرى كل ما جرى ؟؟. وهل هناك هدفا في الدنيا يستحق كل تلك الأرواح والدماء والدمار بسبب الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد؟. كلا ليست هناك حربٌ طائفية في سورية ( وإن سعى البعض وحاولوا بكل الوسائل لتحويلها إلى حربٍ طائفية أو تصويرها كذلك ) ، ولكن نعَم هناك حربٌ أهلية بين من هُم مع السُلطة القائمة وبين من هُم ضد هذه السُلطة ويريدون تغييرها !. وكل طرفٍ خلفهُ دعما من دولٍ إقليمية ودولية !. وهناك طرفٌ ثالثٌ يحترقُ ألما وحُزنا وحسرة ، وغير قادرٍ أن يفعل شيئا ، وهو يتابع ويرى بِحرقةٍ كيف أن أبناء الوطن الواحد يقتلون بعضهم بعضا في سابقةٍ لم تحصل إلا لدى أكثر القبائل الإفريقية تخلفا وتوحشا !.

 


*السوريون لم يعودوا ينتظرون شيئا إلا الموت ، وإن سألتَ واحدهم عن أحوالهِ ، فيقولُ لك (عايش من قلّة الموت) هذا على الرغم من كثرة الموت التي جعلت عزرائيل لا يغادر السماء السورية ليقبض على الأرواح بمعونة كافة الملائكة !. فالكلُّ متفرغٌ للسوريين ، ومع ذلك ترى من يقولُ لك : " عايشين من قلّة الموت " ...


*اعتقدَ الكثيرون أنّ تغيير الحكومة قد يُحسِّنُ قليلا الظروف الحياتية والمعيشية ، ولكن لم يمضِ على الحكومة الجديدة إلا القليل من الزمن حتى قفزتْ أسعار كل الحاجيات الأساسية لِأكل الناس وشربها ، والضرورية لمعيشتها !. والأنكى حينما ترى في الحكومة من تعرفهُ عن قرب وتعرف أداءه وكيف يتصرف في مؤسسته بانعدام كامل للضمير ، فلا يفكر بأن هناك ملايين من المحرومين الذين يعيشون تحت خط الفقر ، وهذا يتطلبُ منه أن يسعى للعملِ بأدنى حدود العدالة والضمير ويضعُ معايير في مؤسسته لا تسمح لأحدٍ مهما كان أن يُستثنى منها .. ويتمُّ تحديد السنوات التي لا يجوز تجاوزها لبقاء هذا وذاك في هذا المركز أو ذاك المنصب ولا عملا له سوى جمع الأموال !.


*العدالة أساس المُلك ، والعدالة أساس الانتصار ، والعدالة أساس حشد الناس خلف العادلين ، والظُلم والتمييز هي الأساس لغضبِ الناس ووقوفهم في وجه الظُلم والظالمين !.


*يُروى أنه خلال الحرب العالمية الثانية اجتمع الجنرال تشرشل بأعضاء حكومته وبدأ كلٍّ منهم يتحدّثُ عن أوضاع وزارتهِ ، وكانت أحوال الوزارات كلها يُرثى لها ، إلا وزارة العدل ، حيث أكّد وزيرها أن العدل والعدالة بألف خيرٍ ، فقال تشرشل : إذا سوف ننتصر !. فالمسئولون العادلون يساهمون في صنع الانتصارات لأنهم يحشدون الناس خلفهم وتحبهم الناس ، وأما الظالمون فيساهمون في صنع الفشل لأن الناس تنفرُ منهم وتشتمهم وتكره أشكالهم وتدعو الله كل يوم للخلاص منهم .. وهذه قاعدة صحيحة فقدُ عرفتُ مسؤولا ظالما ، وكان في مؤسسته من فشلٍ إلى فشل ، ولو كانت هناك دولة تحاسب ، وتضع الإنسان المناسب في المكان المناسب لكان سقفهُ مديرا للمؤسسة الاستهلاكية في مؤسسته ، أو قبّنجي في سوف الهال ( أي يجلس خلف قبّانٍ لوزنِ سحاحير البندورة وشوالات البصل والبطاطا) !. كم أضرُّوا بهذا الوطن وبهذه الدولة نتيجة تغييب الكوادر والكفاءات والمؤهلات باعتمادهم الشخصنات والمحسوبيات والقرابات والمحاصصات واللؤم والكيديات !.هل من يفعل ذلك يحقُّ له الحديث عن الوطنية ؟. وهل هو مؤهَلٌ لمواقع المسئولية العامة ؟.


*والسؤال الذي لا يغادر الذهن : هل يعي المسئولون السوريون فعلا أحوال الناس ؟. وألَا يسألون أنفسهم كيف للناس أن تعيش في ظل الفقر المدقع أو الدخلِ الهزيل أمام الغلاء الفاحش والكافر ؟. هل يذهبون للأسواق ويرون كيف تتطاير الأسعار كل يوم عن سابقهِ بينما الرواتب أو بالأحرى (الصدقات) هي ، هي ، على حالها !. لقد طالبتُ بالماضي إعطاء السوريين رواتبهم بالعملة الصعبة وبما يعادل على الأقل خمسمائة دولار بالشهر أو ما يعادلها بالليرة السورية ، وأن ترتفع الرواتب بنسبة ارتفاع الدولار ، وأعيدُ التأكيد على طلبي السابق ، فهذا الوضع لا يمكن أن يُطاق ولا يمكن قبوله ولا استمرارهُ !. كيفَ للدولة ذاتها أن ترفع أسعار كافة المواد في المؤسسات الاستهلاكية التابعة لها بما يناسب ارتفاع الدولار ، وكيف لها أن لا ترفع رواتب موظفيها ذات الشيء !.

 

الدولة بِعدمِ التفاتها لِأحوال الناس فكأنها تقول لهم (كل واحد يدبِّر راسو بطريقتو) ، يعني أن يسرق ويرتشي ويخطف مقابل الفدية ،ويُهرِّب، ويُشلِّح ويفعل كل ما بوسعهِ كي يعيش !. هناك من يفعلون ذلك ليعيشوا ، ولكن هناك من يفعلون ذلك لتكديس الثروات ، ولذلك تولّدتْ طبقة جديدة من الأثرياء من خلال الرشاوى والتهريب والابتزاز والخطف والسرقات ... وهذه باتت حديث الصحُف العالمية ، وحديث الأجانب !.

 


*سورية لم يعُد فيها مكانا ليعيش الفقراء وباتتْ فقط للأثرياء الذين أثروا بكافة الطُرق الملتوية ، قديما وحديثا ، وكدّسوا بيادر من الأموال والثروات ، وأما الفقراء المحرومين ، فليس لهُم سوى الفرجة على تلك البيادر وأصحابها ، والموتُ في سبيلهم !. مناظرٌ في منتهى السيريالية ،، أناسٌ لا يعرفون كيف يصرفون الأموال ، وأناسٌ لا يعرفون كيف يوفرون ثمن ربطة الخبز !. ومع ذلك ما زالتْ الاشتراكية إحدى الأهداف الأساسية في الدولة ، وما زالت الدولة قادرة على محاكمة كل شخصٍ بحجّة النيل من الأهداف الاشتراكية أو التآمر عليها !. فردِّدوا : ولْتحيَ الاشتراكية !! طبعا سوف يجيبك كل التجار ورجال الأعمال والأثرياء : تحيَ ، تحيَ ، تحيَ !.. وأما الفقراء فسوف يجيبون : ..... منكم ومن هيك اشتراكية !.

 


*تحدثتُ بالماضي عن الفقر المدقع في سورية وأن الموظف لا يكفيه راتبهُ حتى للاقتصار على أكل الفلافل مع أفراد أسرتهِ ، واليوم سأؤكد أن المواطن السوري يحتاج في اليوم الواحد إلى 3000 ثلاثة آلاف ليرة ليعيش أدنى مستويات المعيشة ، يعني تسعين ألفا بالشهر .. فإن كانت العائلة مكونة من أربعة أفراد فقط فهم سيحتاجون إلى 360,000 ثلاثمائة وستون ألف ليرة بالشهر ... فمن أين سيأتي بها وراتبهُ ثلاثون أو أربعون ألفا ؟؟. هل أجرَتْ الحكومة هكذا مقارنات ؟. أم أنها غير معنية بها طالما هم خارج هذه المعاناة ؟.


*أصبح المجتمع السوري يعيش فروقات طبقية هائلة ، طبقة أثرياء ، وهذه درجات متفاوتة ، وطبقة عموم الناس الفقراء وهؤلاء أيضا درجات متعددة تصلُ إلى الفقرِ لحدِّ الجوع والتسوُّل بالشوارع والبحث عما يُفيدُ في القمامة !.


*وأما الدولة والمناصب والشخصنات والمحسوبيات والقرابات التي تتحكم بكل مفاصلها ومناصبها ، فهذه باتَ ينطبق عليها مفهوم الطبقات القديم عند الهندوس ، وهي : طبقة البراهمة، وهم الذين خلقَهم الإِله براهما من فمه، وهؤلاء هم الصُفوة وأصحاب كل الامتيازات والسادة على المجتمع .. وطبقة الكاشتر ، وهم الذين خلقهم الإله من ذراعيه .. وطبقة الويش وهم الذين خلقهم الله من فخذه .. وطبقة الشودر وهُم الذين خلقهم الله من رجليه ، وهؤلاء مهمتهم خدمة الطبقات الثلاث الأولى ، وخاصة طبقة االبراهمة ، وعلى واحدهم أن يشعر دوما بالفخر لأنه يخدم أحدا من طبقة البراهمة ، فهؤلاء في مصافِّ الآلهة ، لا تنطبق عليهم القوانين ولا يخضعون لأية مسائلات !!..

 


*ألا تشبه دولتنا فيما يسودها من إقطاعيات ومزارع ودعسُ على القانون والمعايير وشخصنات ومحسوبيات ودعم وواسطات ، واحتكار للمناصب والمراكز لطبقة (البراهمة) ، ألا تشبهُ تلك الطبقات في الهند قديما ؟. وإلا ما معنى أن يبقى البعض من منصب لمنصب ويمضون حياتهم كلها في المناصب ، والأكفأ منهم بأضعاف المرات ليس لهم شيئا سوى الطاعة لأولئك ، أو الموت قاعدين في بيوتهم ؟. هل هكذا تُبنَى الدول وتتقدم المجتمعات !. أم هكذا تتهدّمُ الدول وتثور المجتمعات ؟.
*وكل أضحى وأنتم بخير إذا بقيتم على قيد الحياة ولم تُصبِحوا أضحيات قبل الأضحى القادم !..

 

https://www.facebook.com/you.write.syrianews/?fref=ts

19.09.2016 00:13