موسم الهجرة الى الشمال ... بقلم : أحمد عودة

انه سرٌ من أسرار الطبيعة أن تهاجر الطيور كل عام و مع بداية فصل الشتاء نحو البلاد الدافئة في الجنوب بحثاً عن الدفء و الطعام و هرباً من الجوع و البرد و تعود أدراجها في بداية فصل الصيف إلى أعشاشها و أوكارها لتتوالد من جديد و تستمر بذلك مسيرة الحياة.

 

أما الحاجّة أم حمدان التي تجاوزت السبعين من العمر لم يكن يخطر ببالها يوماً أن تغادر ضيعتها الغافية في حضن جبل الزاوية حيث تعيش راضيةً مرضية في بيتها الريفي البسيط مع ابنها الوحيد بعد أن زوّجت بناتها الأربعة كانت أيامها متشابهة و أحلامها بسيطة لا تتجاوز حدود ضيعتها كان كل ما يشغلها رعاية دجاجاتها و سقاية غراسها و الثرثرة مع الجيران تحت شجرة الجوز أمام دارها .
 


كانت امرأةً قويةً شامخة يعجبك حديثها و تؤثرك إنسانيتها و حجرات عينيها الزرقاوين يخبرانك الكثير عن ذلك الجمال التليد المختبئ بين تجاعيد وجهها و تحت منديلها الأبيض الطويل .
 

 


و لأن التغيير هو سمة الكون وحيث أن استمرار الحال من المحال و مع تطور الأحداث الأخيرة في بلدنا سورية بدأ الرعب يدق بابها والخوف يلج بقوة إلى داخل قلبها و إحساسها حاولت جاهدةً إخفاء مشاعرها و الإكثار من الدعاء و الصلاة عسى أن تمر هذه الموجة على خير و تجنبنا ما نخافه و نخشاه .
 

 


لكن الثورة بدأت تنتشر كالنار في الهشيم في قرى الشمال ولا احد يستطيع أن ينأى بنفسه عن الأحداث الجارية فعمَّ البلاء وتطاير الشرر في جميع البلاد وأصاب ما أصاب من البيوت الآمنة والضيع الهادئة وأصبح القتل و الدمار في كل مكان وعدد الشهداء يتزايد كما يتزايد عداد الماء و الكهرباء والكل يسال أين تذهب صلواتنا ودعاء الأمهات الصابرات.
 


ولن تنسَ أم حمدان تلك الليلة المظلمة حيث اشتد القصف على بلدتهم وبدأت البيوت الطينية تسجد فوق رؤوس ساكينيها دون أن تبوح بأسرارها فقام شباب البلدة بتجميع النساء والأطفال في إحدى الشاحنات حيث انطلقت بهم في ظلمة الليل نحو الشمال ترجو لهم شط الأمان.
 

 


ومع خيوط الفجر الأولى كانت ما تزال الشاحنة تشق طريقها بعنادٍ في الحقول الزراعية الوعرة بينما الأطفال نائمون في حضن أمهاتهم وقد أخذ البرد منهم كل مأخذ , كانت الأمهات تحاول أن تدفئ أطفالها ولو بأنفاسها وتفرك أيديهم و أرجلهم حتى لا تتجمد أطرافهم من الصقيع .
 


ثم بدأت الشمس ترخي ذيولها الذهبية وتمنح الأطفال بعض الدفء وتعطي الأمهات المزيد من الأمل وخاصة بعد أن بدأت مخيمات اللجوء البيضاء تلوح في الأفق البعيد وما هي إلا بضع ساعات حتى أصبحت أم حمدان مع كنتها وحفيديها عبارة عن رقم في إحدى المخيمات تنتظر بطانية و غطاء ووجبة لطعام الغداء وتشابكت قصتها مع عشرات القصص من أمثالها ممن اضطروا للنزوح عن بيوتهم ولم يحملوا معهم إلا الملابس التي على أجسادهم وتركوا ورائهم اعز الناس على قلوبهم وكل ما يملكون و بعض ذكرياتهم وربما أيضا كل مستقبلهم .
 

 


لم تستطع أم حمدان أن تتأقلم أبداً مع الوضع الجديد فكانت تعيش معهم بجسدها النحيل بينما عقلها و عواطفها كانت تطوف هناك في بيتها العتيق و تحت شجرة الجوز والشوق يحملها كل يوم إلى عتبة غرفتها وتمنت لو تعود وتنام على وسادتها وتشم رائحة منشفتها وتذكرت قطرميز العسل المخبئ تحت سريرها وماذا حل بدجاجاتها بعد تلك الليلة المنكوبة.
 

 


كانت أول من يستيقظ في الصباح الباكر و تنطلق نحو الشريط الشائك لتنظر بعيون قد تحجر الدمع في زرقتها نحو الأفق البعيد حيث تغفو ضيعتها حيث يرقد زوجها حيث نسيت هناك سبحتها و هويتها عسى أن يأتي من يخبرها عن ما حصل وراء تلك التلال أو يطفئ النار في قلبها و يطمئنها عن ابنها الوحيد التي تقطعت به الأوصال و غاب عنه أي اتصال .
 


مرت الأيام كالسنين في مخيمات اللجوء وتجلى القهر كالغراب في وجوه قاطنيه الكل يسأل عن ساعة الخلاص و موسم الرحيل أما أم حمدان فحتى جبال الثلج العالية و رياح القطب العاتية لم تمنعها من الوصول إلى الشباك الشائكة و انتظار ابنها الوحيد المُغيب عنها وراء الأفق البعيد و تسأل نفسها كل يوم يا ترى هل هو ميت فتطلب له الرحمة أم هو في الأسر فترجو له الخلاص أم هو حي وتسأل الله قرب اللقاء و لكن ما من مجيب ... ما من مجيب
 


فالصوت حزين حزين و الطريق طويل طويل.....
 

17.07.2016 14:12