سيريانيوز ... تنشر وثائق عن الوضع الاقتصادي السوري في خمسينيات القرن الماضي

07.10.2016 | 12:53

بيت في الروضة بخمسٍ وعشرين ألف ليرة ....
والليرة تساوي مئة فرنك فرنسي ....

من يقرأ هذا العنوان يظن أننا نعيش في عهد دولة بعيد كل البعد عن هذا العهد الذي نحنُ فيه اليوم، فكيف يستطيع السوري اليوم شراء منزل بحي يعتبر من أرقى الأحياء بدمشق بمبلغ خمس وعشرون ألف ليرة بينما سعره يتجاوز المائة وخمسون مليون ليرة سورية، وكيف يصدق أن المائة ليرة سورية كانت تساوي خمسة وثلاثون دولاراً والليرة الواحدة تساوي المائة فرنك فرنسي بينما الليرة اليوم قد أخرجت من معادلات التداول وأصبحت عملة أثرية نحتفظ به للذكرى فقط، فالدولار اليوم يساوي أكثر من خمسمائة ليرة سورية واليورو بستمائة وخمسون وكيلو الخيار بمئتين ليرة والأسعار تسير نحو الجنون الذي لم يعد يدخل ضمن إدراك الإنسان العاقل.

هذه الأسعار المذكورة في العنوان، ليست أسعار خيالية من خيالنا الحي، بل هي أسعار العقارات الحقيقية في سوريا قبل ستون عاماً فقط ....

فمن عمرهُ اليوم سبعون أو أكثر يعي كل الوعي عما نتحدثُ عنه، يقول الأستاذ عبد الغني العطري في كتابه اعترافات شامي عتيق الصادر في العام 1998: " الذين تجاوزوا الأربعين من العمر أو أكثر، يصعدون الزفرات حزناً ويترحمون على الماضي البعيد أيام الرخص والخير والبحبوحة، يوم كان سعر كيلو لحم الغنم الفاخر ثلاث ليرات بينما اليوم تجاوز سعر كيلو اللحم الأقل جودة الثلاثمائة وخمسين ليرة سورية، وقد كان المرء يستطيع أن يدخر من راتبه على الرغم من أنه راتب مضحك بالنسبة لأسعار اليوم، مايكفيه ليعيش في بحبوحة طيلة الشهر والإدخار منها، فقد كان راتب الشرطي سبعة عشرة ليرة سورية، وراتب المدرس ثلاثون ويزيد قليلاً، بينما راتب الموظف الجيد يصل إلى المئة ليرة.

حدثني صديق لي وهو أستاذ جامعي أنه في العام 1955 استطاع أن يدخر من راتبه مبلغ ثمانية وعشرين ألف ليرة سورية ليشتري بها طابقاً كامل الكسوة في شارع أبي رمانة، هذا المنزل اليوم يساوي مايزيد عن سبعين مليون ليرة سورية ....".

هذا ماتحدث به المرحوم عبد الغني العطري رحمه الله في التسعينيات من القرن الماضي، ولو بقي حياً يرزق حتى يومنا هذا ماعساه يكتب، عندما يعلم أن كيلو اللحمة التي تحدث عنها تجاوز الألفي ليرة وأن المنزل الذي تحدث عنه يتجاوز سعره اليوم أكثر من مئة وخمسون مليوناً، وأن الموظف والشرطي يعيش في ضيقة وبؤس مع راتب لا يتماشى معه لأكثر من خمسة أيام من الشهر.

لقد كانت سوريا في بدايات عهدها من الاستقلال الذي تم في 17 نيسان 1946 بلد البحبوحة والخير والرحمة بسكانها، كان يكفي الموظف أن يدخر خمسة آلاف ليرة من راتبه ليشتري منزلاً جيداً في الأحياء الراقية بمدينة دمشق، كانت البلد بلد تطور وصناعة وعمل، لامكان للكسالة أو الإتكاليين، ويكفي الشاب مهما علت درجته العلمية أو قلت أن يعزم على العمل حتى يجد الكثير من الوظائف والمهن بانتظاره، فيعيش منها هو وأسرته في بحبوحة ورغد عيش.

أما الحديث عن النهضة الاقتصادية والصناعية والتي بالإمكان أن نعتبرها ثورة في التقدم الاقتصادي بالنسبة لدولة حديثة العهد بالاستقلال، فنراجع فيها كتيب معرض دمشق الدولي الأول المحفوظ ضمن متحف سيريانيوز الذي أقيم بدمشق في 2 أيلول إلى 1 تشرين الأول من العام 1954 وهذا المعرض يعتبر المعرض الأول الذي أقيم بشكل رسمي تابع للمديرية العامة لمعرض دمشق الدولي سبقهُ عدد من المعارض العديدة كمعرض الثمار في العام 1927 ومعرض دمشق وسوقها في العام 1933.

 وبالعودة إلى معرض دمشق الدولي الأول عام 1954 سنتفاجئ بعدد الشركات  السورية التي وصلت للعالمية كما سنفاجئ بعدد المصارف التي تعمل في سوريا وبورصتها.

كان يعمل في سورية حسب نشرة معرض دمشق الدولي أكثر من ثلاثين مصرفاً منها بنك سوريا والأردن ومصرف الرافدين ومصرف الأمة العربية ومصرف سوريا ولبنان ومصر والبنك العربي والبنك البريطاني للشرق الأوسط والشركة الجديدة الجزائرية وبنك ودي روما وبنك الكريدي ليونه والبنك اللبناني للتجارة وبنك يوسف أسود في حلب وبنك ألبير حمصي في حلب أيضاً وغيرها من المصارف التي كانت تعمل في سوريا.

وكانت نشرة سعر الصرف في تلك الأيام هي 357 قرشاً لكل دولار أميركي و940 قرشاً للجنيه الإسترليني وليرة واحدة لكل مئة فرنك فرنسي.

وكانت القوانين المصرفية بذلك الوقت تساعد على الاستثمار حيث كانت قوانين النقد وأنظمته تسمح بحرية نقل العملات الأجنبية وبإدخال الذهب إلى سوريا تشجيعاً منها على الاستثمار.

أما الشركات السورية التي كانت تعمل على مستوى عالمي فهي كثيرة يصعب حصرها وتزيد عن المائة شركة ومنها: شركة بارودي ونطفجي وشركاه والتي كانت تعمل وتنتج بدمشق لتصدر إلى مكاتبها بأميركا في مجال الألبسة ومواد التجميل.

وشركة بابكيان ليون وشركاه: والتي تعمل بشارع الملك فاروق بحلب ولها مكاتب بألمانيا وكانت تستورد لآسيا والوطن العربي أهم الساعات الفرنسية والألمانية.

وشركة ستيفانو جورج: بباب توما بدمشق والتي كانت تستورد موتورات ناشيونال أويل لآسيا والوطن العربي.

وكذلك شركة صنع السكر والمنتجات الزراعية المساهمة، وشركة الكرنك للسياحة والنقل والتي كانت تحقق أرباح خيالية حتى تاريخ تأميمها والخسارة التي لحقت بها حتى اضطرت الدولة إلى إغلاقها، وشركة المشرق للسيارات السورية وشركة مصانع الزيوت والصابون المحدودة المسؤولية وشركة المغازل والنسيج المساهمة المغفلة ....

وغيرها من الشركات التي كانت تتسابق عليها أوروبا وأميركا لتشتري بضائعها الفاخرة الصنع، والتي كان يفتخر الكثير من أثرياء العالم أنهم يملكون شيء مدون عليه صنع في سوريا.

هذا هو واقع سوريا الاقتصادي في خمسينيات القرن الماضي وهذا هو حال شعبها، ومن أراد يقول أن هذه البحبوحة ناتجة عن قلة عدد السكان الذي لايتجاوز الخمسة ملايين نسمة حتى نهاية العام 1958، نستطيع أن نرد عليه أن هذه الخيرات والبحبوحة ناجمة عن الروح الوطنية العالية التي كان يتمتع بها جناحي الاقتصاد السوري من صناعيين وتجار ويقود هذان الجناحان حكومة تؤمن كل الإيمان بأن سوريا قادرة على تحقيق المعجزات فيما لو أعطيت الحرية الاقتصادية لتجارها وصناعيها، وأن سوريا وعملتها عانت الأمرين لا من ازدياد عدد السكان بقد ما كان نتيجة تخريب التأميم الذي تبناه جمال عبد الناصر إبان الوحدة مع مصر في العام 1958 وتابعته الحكومات المتعاقبة لحزب البعث خلال مسيرتها في قيادة الدولة والمجتمع.